سعدت يوم أمس بلقاء البروفيسور حازم الطيبي أستاذ جراحة العظام واستشاري تقويم تشوهات وإصابات عظام الأطفال، وهو أحد أعلام الطب في الشقيقة مصر، وكنت قد تعرفت عليه من خلال بعض مؤلفاته ومقالاته التي أهداها لي صديقه وصديقي الدكتور أنيل كومار استشاري أمراض الكلى والمسالك البولية منذ فترة ليست بالقصيرة، ووعدني بأن يخطرني بوصول البروفيسورحازم حال وصوله إلى السودان، فقد علمت أنه يقوم بإجراء بعض الجراحات النادرة لمعالجة وتقويم تشوهات وإصابات العظام لدى الأطفال. التقيت بالأستاذ الدكتور حازم الطيبي وبرفقته صديق الطرفين الدكتور (أنيل كومار)، وكان الأول في طريقه إلى المطار للحاق بالطائرة المغادرة إلى بورتسودان، التي يذهب اليها لاجراء بعض العمليات الجراحية، وقد أهداني مؤلفين من مؤلفاته التي صدرت مؤخراً، حمل أحدهما اسم (يوميات الثورة)، والثاني اسم (على فين يابلد)، وهو الجزء الثاني من مجموعة مقالات منشورة للأستاذ الدكتور حاتم الطيبي، وأنشر مقالة من تلك المقالات جاءت بعنوان (السودان إلى أين؟) وأرى أنها تشخيص مبكر للحالة السودانية التي يعمل كثيرون على تفاقمها قصداً أو جهلاً، وتعمل أيادٍ خارجية على إيقاع الأذى بنا وببلادنا.. لذلك أفسح هذه المساحة اليوم لتلك المقالة: السودان إلى أين؟ كنا في رحلة إلى السودان في قافلة طبية تضم جميع التخصصات، كان ذلك في يناير 2004م وهو من أجمل شهور الخرطوم؛ الجو رائع ودافئ كأهلها.. حين وصلنا إلى المطار وجدت في انتظاري بعض أصدقاء الدراسة، رحبوا بي وخرجنا بعدها إلى الفندق الوحيد الذي يصلح لأن يضمنا وهو فندق هيلتون، سرنا في شوارع الخرطوم لأول مرة، العاصمة المثلثة لم تكن على الحال الذي يليق بها.. هالني المنظر.. أغلب الطرق غير مسفلتة، بلا أرصفة، بلا أعمدة إنارة إلا شارع الكورنيش، عدا ذلك فإن الشكل العام أثار في نفسي شجوناً؛ فالأبنية من دور أو إثنين.. شكلها العام متواضع للغاية، المستشفى الذي زرناه يبوح بحال البلد.. الأجهزة المتوفرة قديمة ومستهلكة، لا تصلح للاستعمال، المكاتب والعنابر كلها من بناء المستعمر وقت إن كان منذ أكثر من سبعين عاماً. حين وصلنا ونزلنا بفندق هيلتون، كان الإحتفال بالعيد الفضي- مرور 25 عاماً- على إقامة الفندق، مدير الفندق انجليزي... رحب بنا.. إمكانات الفندق لا تتجاوز الأربعة نجوم على الأكثر، وهو المكان الوحيد الذي يليق بإبرام الاتفاقيات والمقابلات، كنت أجلس في بهو الفندق لأرى جنسيات مختلفة في لقاءات هنا وهناك طلبني القنصل المصري بعد ساعة من وصولنا؛ لكي أذهب معه في مهمة عاجلة؛ لإنقاذ طفلة ألم بها حادث، كان القنصل يومها مهتماً بالزيارة لتظهر في الصحف أنشطة القافلة المصرية، ذهبنا إلى مستشفى خاص.. هالني المنظر منذ وطئت قدماي المكان، قابلنا الزملاء الجراحون السودانيون، وكانوا قد بدأوا فعلاً في إجراء الجراحة المطلوبة.. نزلنا مع القنصل المصري بعد أن أطمأننت، ولكن عيني كانت ترصد المستوى العام للمستشفى شكلاً وموضوعاً.. أقل ما يقال عنه أنه شديد التواضع. الكرم السوداني تعدى المعقول، وتسابق الجميع لحجز موائد الغذاء والعشاء، فكنا بعد نهاية يوم حافل بالعمل تأخذنا السيارات إلى حيث فيلا المضيف، هذا الثراء والذوق العام للصفوة، يبوح بما في هذا البلد من خير.. العجيب أن الطرق في أطراف المدينة وفي الأحياء الراقية كلها عبارة عن مطبات وجبال ومنحدرات، تكاد تدمر السيارة حتى تصل إلى باب الفيلا، لتدخل إلى مستوى آخر من النظام والأبهة، استغربت هذا التفاوت بين الداخل والخارج. في تجوالنا ذهاباً وإياباً رأيت أبراجاً زجاجية تبدو غريبة عن النمط الموجود.. نشاز تماماً، سألت قالوا: هذه ناطحات شركات البترول الوافدة.. لقد دخل الغرب السودان وهذه إرهاصاته.. ابتسمت وأمسكت برأسي ونظرت لصديقي السوداني: (الدور عليكم يا أبو حميد) ضحك ضحكة مجلجلة.. (هذا قدرنا).. دخلوا مع البترول.. أيامها كانت مشكلة الجنوب قد شارفت على نهايتها، ولم تكن مشكلة دارفور قد ظهرت ملامحها بوضوح، السودانيون شعب مثقف وواعٍ سياسياً، يعلم أنه مستهدف لكنه يريد أن يجرب حظه مع البترول. تذكرت يوم قابلت القنصل المصري وقال لي: السودان هي محطة الغرب القادمة، الجميع يطرقون بابها، مشروعات كثيرة جداً بدأت، طرق وكباري، محطات مياه وكهرباء، مزارع ماشية، موانئ خاصة لتصدير خيرات السودان من منتجات زراعية.. أخذ يعد لي مجالات لا حصر لها، وأنهى الكلام قائلاً: إذا كان لديك أقارب يستثمرون قل لهم إن كل شيء هنا. حين جالست أصدقاء الدراسة أكدوا الكلام، وعدت إلى مصر وتابعت السودان وما حدث لها؛ السودان مستهدف، ولن يترك لكي يزدهر، وإذا حدث ستقوم الحروب ليتفتت ويتم استنزافه، السيناريوهات المنتظرة للسودان مختلفة عن العراق، فلا أعتقد أن هناك غزواً مباشراً، ولكن الطابور الخامس من أهلها مستعد في دارفور والجنوب، وفي 2011م القادم سيتم فصل الجنوب، يليه الغرب في دارفور.. ثم الشرق.. إذا حدث ذلك فلابد أن تحدث مجازر لا تبقى ولا تذر، تخرج بعدها النفوس مجروحة، والنقمة على الآخر ممتدة إلى أجيال قادمة، لك الله يا أرض السودان، وما عليك من إخوة أحببتهم وأحبوني.