عندما كنا صغاراً في المرحلة الأولية «الأربع سنوات الأولى لمرحلة الأساس الحالية».. كانت بعض كتب المنهج أو ربما الكتب المصاحبة التي نقرأها تشمل بعض التمثيليات.. وأذكر في إحداها مشهد أحد اليهود وهو يرى حقيبة ملآي بالذهب.. فينقض عليها وهو يصيح: «الذهبُ.. الذهبُ.. كاد عقلي أن يذهبُ» والتمثيلية تحكي عن جشع اليهود.. ولهفتهم على المال والشح به، هذا المشهد ما زال راسخاً في ذاكرتي.. رغم مر السنين بل العقود وكنا حينها نسمع عن الذهب في جبال بني شنقول والأنقسنا.. وأن الخديوي محمد علي خديوي مصر عندما فكر في غزو السودان كان من أجل المال والرجال.. ويشرح لنا الأستاذ الذي كانوا يسمونه «أفندي» ذلك.. بأن السودان بلد مليء بالذهب وبالرجال الذين يصلحون للجندية مما أسال أطماع محمد علي في عزوه وسمعنا بعدها أن شرق البلاد مليء بالمعادن.. خصوصاً منطقة جبيت.. وكان قد جرى فيها تنقيب لاحقاً وعلى رأس العمل الزعيم العمالي الأسبق سليمان موسى - يرحمه الله - ومن منطقة الرباطاب كنا نرى عينات من «المايكا» التي يلتقطها العامة من الناس. ولم تكن فكرة التنقيب حتى على الآثار معمول بها.. ولا يدرك الناس قيمة تلك الآثار التاريخية أو المادية ولم تكن السياحة معروفة أيضاً.. وكان التكريس كله على الزراعة.. ولا شيء غير الزراعة.. أما الصناعة المحلية فقد كانت قاصرة على بعض مصانع الصابون «المكعبات» بالطرق التقليدية.. وبعض ماكينات النسيج والشعيرية.. وبمرور الزمن ظهرت مصانع الملابس الجاهزة والعطور فالبلاستيك حتى دخلت صناعة الأدوية ثم الصناعات الثقيلة كالصلب وصناعة العربات والشاحنات والجرارات.. ونسمع في الأخبار عن صناعة أنواع من الطائرات الحربية ومختلف الأسلحة.. ثم ولجنا إلى صناعة النفط.. والكل يعرفون عنها إيجاباً وسلباً كإهمالنا الاهتمام بالزراعة التي كانت عصب التمويل في بلادنا.. وحتى على المستوى الأهلي.. فعندما شاع أن منطقة «الباوقة» - غرب بربر - ظهر فيها الذهب.. ترك الناس الزراعة وهرعوا إلى منطقة الخور على بعد خمسة عشر كيلومتر تقريباً شمال الباوقة وأخذوا ينقبون عن الذهب بالطريقة البدائية.. فأحس المسؤولون بذلك.. وراحوا يحاربون عملية التنقيب هذه. قال محدثي الذي شارك في إعداد فيلم وثائقي في العام 2005م لمنطقة بربر وضواحيها - وجدنا صعوبة كبيرة في الاستدلال على منطقة التنقيب العشوائي البدائي لأن كل من نسأله يتهرب من الإجابة ظناً منه أننا من قبل السلطات.. حتى عثرنا على طفل صغير برئ فدلنا على الخور.. لنشاهد كميات كبيرة من الجوالات المليئة بالحجارة والتراب الذي استجلب من «جبل النخرة» غرب بربر.. وكمية من «الطشاته».. قال محدثي شرح لنا أحد الذين تمكنا من استدراجهم للحديث معنا بعد أن اطمأن أننا «ناس إعلام» كيفية العمل قائلاً: نقوم بطحن الحجارة وصب الماء عليها في الطشت.. ثم نحرك التراب داخل الطشت بطريقة دائرية لفترة.. ثم يوقف التحريك لتظهر ذرات لامعة على سطح الماء تدل على وجود شيء من الذهب.. وإذا لم تظهر الذرات يعاد التحريك مرات ومرات وعند اليأس من ظهورها.. يدلق التراب والماء بالخور.. ويعبأ الطشت بتراب آخر وماء جديد.. وتعاد العملية.. حتى إذا ظهرت الذرات.. يصفى الماء لتبقى الذرات.. فتوضع في إناء آخر.. وتكرر العملية حتى تكثر الذرات داخل الإناء المعد لها ليضاف إليها بعض «الزئبق» حتى تتجمع.. ومهما كان الشخص محظوظاً فلن يحظى من هذه العملية بأكثر من ثلاث جرامات من الذهب من خمسة أو سبعة جوالات من التراب والأحجار وقد يكشف الزئبق في نهاية إحدى العمليات أن الذرات ليست لمعدن الذهب.. فتضيع الآمال.. لا في الغنى.. ولكن حتى في الثلاثة جرامات.. ويذهب المجهود سدى.. ولكن حب المغامرة.. وتجدد الأمل.. يجعلان الناس يهجرون ما هو مضمون «الزراعة» ليلهثوا خلف السراب «الغنى». بدأ تطور التنقيب عن الذهب بولاية نهر النيل عن طريق حفر الآبار بالأراضي الممتدة شرق المدن والقرى الواقعة على الضفة الشرقية لنهر النيل.. ويصل عمق البئر إلى عشرة أمتار وعرضها ما بين ثلاثة وأربعة أمتار ويستعمل «الحفار - المنقب» بطارية فلاش.. تثبت على جبينه كما يفعل المنقبون عن الفحم الحجري.. حتى يتمكن من رؤية «عرق الذهب» فيتابع الحفر تجاهه.. وقد يكشف عن لا شئ بهذه البئر فيتحول هو ومن معه إلى حفر بئر أخرى.. حتى ظهرت الأجهزة الكاشفة عن المعادن.. التي تحدد البقعة التي تحوي معدناً في جوفها.. استجلبها الناس من أسواق دبي - غالباً - وبيعت هنا بأسعار باهظة.. بلغت الثمانين مليوناً في البداية فحاربتهم السلطات أولاً مستغلة دخول الأجهزة بصورة غير رسمية بلا تصديق.. ودفع رسوم جمركية.. وعملت على مصادرتها والبعض يقولون إن هذا تم من أجل الشركات التي ستدخل مستثمرة في هذا المجال.. وتدنت أسعار الأجهزة لتصل إلى خمسة عشر مليوناً في آخر معلومة. «يتبع»