زارني بمكتبي الصديق الزميل الصحفي المعتق الأستاذ سيد علي كرار رئيس تحرير مجلة «الشباب والرياضة» سابقاً. جاء سيد وفي عينيه حزن طويل، وفي يديه منديل قصير مطرز ببلورات الملح والدموع التي ذرفها قبل مجيئه إلى مكتبي.. سألته.. ماذا بك؟.. أجاب.. حدث كارثي كبير أصاب حدائق الإبداع في بلدي.. مات نادر ياحسن قلت أي «النادر» ياسيد فهم كُثر؟.. قال: إلا هذا النادر فهو نادر.. إنه نادر خضر.. سقطت ملعقة السكر من يدي وكنت أذوب بها بلورات السكر في قدح الشاي الذي كنت أعده بنفسي للعزيز سيد.. صحت مذهولاً وأنا أحدق في عيني سيد اللتين شرقتا بالدموع.. يا الهي.. أفل النجم الأخضر النادر، وبعدها بكى سيد ياسادتي وأبكاني معه من اعماق قلبي وخارطة عصبي.. حبات السكر لم تذب في قدح الشاي لفداحة الخبر.. تكلست بلورات السكر في قاع القدح، وأعلنت الحزن العام واستعصت على الذوبان في قدح الشاي، فاتشح الشاي بالسواد والمرارة وكأنما ألقموه بنوع من «السكر المر» الذي انداح هذه الأيام في بلدي، وكأنما بدلوا استخلاصه من القصب الى مدورات الحنظل المنسكب من صهاريج الحزن العام، الذي بات يصل الى كل الناس في بلدي عبر صنابير الصبر الجميل، الذي لولاه لمتنا جميعاً بداء السكري والفشل الكلوى، وفيالق الحزن الطويل الذي كان شمالياً هواه، حيث توالت أحداث الفجائع عاصفة.. ففى الشمال الوراني أفل نجم النجوم وردي، وفي الشمال الوسطاني خبأ ضوء القنديل الأخضر المعلق على جدران غرفات قلب الشاعر الشاهق «حميد» وقبلهما سكت الرباب والشدو الجميل الذي كان يحلق بنا بجناحي العندليب الأسمر الي دنياوات لا تخيب فيها الضراعات ولا تستباح فيها مدائن الابداع. يا الهي .. لقد أفل النجم الأخضر النادر.. نادر خضر، ولكن وياسبحان الله، فالموت هو الحقيقة القاصمة في هذه الحياة التي تقترب قعقعة سنابك جيادها منا وفي أي لحظة.. بل هي أقرب إلينا من حبل الوريد. أفل النجم الأخضر النادر الفنان الشاهق السامق نادر خضر، هذا الفنان النادر في كل شيء .. كل شيء تقريباً.. بحة الصوت النادر.. صهيل الأداء النادر.. مفردات الشعر النادر كل ذلك كان ينطلق من صدر وعقل فناننا نادر خضر، الذي تلون حياته وفنه خضرة مستدامة ويا سبحان الله يعيش ناس «زرزور وقمبور» ويموت الطائر الأخضر النادر.. عصفور الجنة الذي كان يرف بجناحيه طرباً وعطراً ومحنة فاضت واستفاضت الى أن فاضت روحه الطاهرة في الساعات الأولى من فجر يوم الأحد الأسود في منطقة «الشيخاب» جنوبشندي، على مسافة سبعين كيلومتراً، ومن ثم أفل النجم الأخضر نادر خضر وفي معيته مدير أعماله وصديقه وليد يسن، والعازف فارس حسن التوم، ومحمد الطيب عبدالرحمن. واصل الحكاية الحزينة الباكية أنه بينما كانت عربته اللاندكروزر البيضاء الإستيشن تطوي شارع الأسفلت الذي كان يتلوى أمامها كافعى أفريقية سوداء في لون المحن.. قد تكون السرعة زائدة بعض الشيء، ولكن كان القدر أقدر وأسرع الى كتابة أحرف أبجدية «النهاية» على شراع الليل الأسود إلا من بضع ضوء كان يترقرق من ألق النجيمات البعيدة الكسولة، التي أضناها السهر وعربد بليلها الأجل، وفي أقل من إيماءة سرحان وخفة ايطلا ظبي.. شهقت سيارة اللاندكروزر البيضاء شهقة الموت، وهي تسمع بين لحظة الصحو والإغماء صوت أضلعها وأضلع من عليها تتحطم، وفي غمضة عين تحولت اللاندكروزر البيضاء الى شظايا وبقايا ودخان وغبار، ليل مطحون ومعجون بالأسى والفجيعة، وسكت كل شيء تقريباً وأخذت نبضات غرفات القلوب الأربعة في جوف الشباب الأربعة «نادر ووليد وفارس ومحمد الطيب» تعزف ياقلبي آخر مقطع في معزوفة ذاك الليل الدرويش، الذي سحق بقبضته أضلع العصافير التي كانت قبل جزء من الثانية تغني وتطير في دنياوات لا تخيب فيها الضراعات والأمنيات، بقرب موسم الفرح الكبير بهذه العصافير، وفي مقدمتهم عريس السماء ذاك النادر النادر.. نادر خضر الذي يحلم بضجة العرس المقام وبهجة الأصحاب في حي الفتيحاب، حيث العصفور الأخضر النادر يحلم ببناء عشه قشة قشة مع خطيبته التي كان يبثها أشواقه ويدنو اليها عند الفجر ويورد خديها يمسحها بماء العين، وهي هناك على البعد تعيش في الأراضي المنخفضة «هولندا» تلك الأراضي التي ترضع الحب وحليب القمر وهي تسترق النظر بين فينة وأخرى للجسر العظيم الذي يقي الأرض المنخفضة من الموت غرقاً، ولكن ياسادتي وقف الجسر سادراً وصامداً دون أن يضرجه دم الانهيار، غير أن الذي انهار ياصحابي هو عمر بل كل عمر خطيبة الفتى النادر.. نادر خضر وهي تجوب السوح الخضراء في الأراضى المنخفضة وهى تحدق في السماء، فذرفت السماء مطراً أسود وقد حمل لها الأثير ذاك الخبر المثير الذي لفظته معدات الفضائيات الوطنية والاقليمية والعالمية، وبشيء مقتضب من سيرة فنانا الراحل نادر خضر.. أحكي لكم يا أحبائي بعضاً منها.. حيث أن فناننا واتته شهقة الميلاد الأولى بحي بانت شرق بمدينة أم درمان، وتلقى تعليمه الأولي بمدرسة ابوكدوك الابتدائية، ثم تلقى تعليمه الأوسط بمدرسة بيت الأمانة الوسطى، ثم تلقى تعليمه الثانوي بمدرسة النصر.. أما تعليمه الجامعي .. قال لي يوماً صديقى العزيز جداً محمد همشري إنه زامل فقيد الفن والابداع السوداني في إحدى الجامعات الهندية.. حيث نال فقيدنا الراحل درجة البكالاريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية، غير أنه ورغم حصوله على هذه الدرجة العلمية الرفيعة، التي كان يمكن أن تؤهله لنيل وظيفة رفيعة في السلك الدبلوماسي السوداني، وربما كان يمكن أن يصبح سفيراً لبلاده في اي دولة.. ويا سبحان الله، فقد أصبح فقيدنا فعلاً سفيراً لبلاده في مجال آخر هو الفن والابداع والموسيقي والغناء، وكان خير سفير، حيث أصبح له جمهور عريض على امتداد القارة السمراء، خاصة اثيوبيا ودول الجوار، وقد زار فناننا الراحل معظم دول العالم، وهكذا انتقل فقيدنا الغالي الى العالم الآخر وفي نفسه «شيء من حتى» .. رحم الله فقيدنا الغالي رحمة واسعة وأسكنه فسيح رضوانه مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقاً.