القلب الكبير: يعد إبراهيم أبو التوحيد، ولهذا فهو المنار الذي استرشد به أنبياء الله والمؤمنون في كل عصر، هو المثل الطيب السامي أمام كل الناس، هو الذي صدّق رسالة الله، وترك أهله وعشيرته وذهب إلى الأرض التي اختارها له الله، وهو الذي كما يقول القرآن وجه الناس نحو الحياة بقلب سليم حتي يوم القيامة العظيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم. لقد وسَع قلب إبراهيم جميع الناس، وكان يريد للكل أن يتركوا عبادة الأصنام، ويدخلون في حياة التوحيد، لقد أرهقت عبادة الأوثان كاهل الناس بدون جدوى، ولقد رغب إبراهيم في أن يبدأ مبشراً بالتوحيد بين قومه، وتمكن أن يقنع لوط أخاه، وتارح أباه، ولقد رضي هذان بترك موقع الوثن البغيض، وسارا معه رحلة طولها ألف ميل، وإذا كانت فلسفة رفع المعنويات تقول إن الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فلقد وصل أبو إبراهيم إلى منتصف الطريق إلى حاران، ويطلق البعض من خدام كلمة الرب على الذين يبدأون مع الله ولا يصلون إلى آخر الطريق بأنهم الحارانيين، الذين يبدأون الرحلة بالغيرة والحماس والقوة والنشاط، ولكنهم لا يكملون، ولا يصلون إلى نهاية المطاف، وبالتالي لا يصلون إلى كنعان السماوية، ويقول مفسرو الكتاب المقدس أن قصة تارح تعطي تحذيراً أكيداً للسالكين في رحلة الحياة الأبدية إلى الله في المجد. ويؤكد الأدب الإسلامي أن تارح خرج مع ابنه، ولكنه لم يكن قادراً ولا راغباً في أن يكمل معه الطريق، وقابل إبراهيم بالتهديد والوعيد، ولكن إبراهيم صاحب القلب الكبير كان يصلي للرب قائلاً: «رَبَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ» إبراهيم41، وفي سورة مريم قصة رفض أبو إبراهيم، وكيف أن إبراهيم أوصاه أن يعبد الله الواحد، ولكنه كان من الرافضين، ورغم هذا يؤكد إبراهيم أن قلبه كبير، ويطلب الرحمة لأبيه ويستغفر ربه له، ويختم حديثه مع أبيه طالباً له الإستغفار، ويقول سلام عليك سأستغفر لك ربي، ويأتي هذا في سورة مريم: «اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً* إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً* يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً* يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً* قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً* قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً* وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً» 41-48 ولقد وصف القرآن الكريم إبراهيم بأنه حليم لا يتعجل العقاب، وأواه أي كثير التأوه والتوجع للسوء الذي يصيب غيره، وأنه منيب أي يرجع إلى الله في كل أمر، قال القرآن الكريم عنه عندما كان يجادل في قوم لوط: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ» سورة هود الآيات 74-75 رؤيا إبراهيم: لقد تمتع إبراهيم برؤيا الرب، وكما قال أول الشهداء أسطفانوس في خطبته الحماسية: وَقَالَ لَهُ: «اخْرُجْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَهَلُمَّ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ» أعمال الرسل3:7، وهو هنا يؤكد ما جاء في سفر التكوين: وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ«. فَذَهَبَ أَبْرَامُ كَمَا قَالَ لَهُ الرَّبُّ وَذَهَبَ مَعَهُ لُوطٌ. وَكَانَ أَبْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ. فَأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَايَ امْرَأَتَهُ وَلُوطاً ابْنَ أَخِيهِ وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ» تكوين12: 1-5، وبالرغم من أن هناك مسافة زمنية، فلقد كانت رؤيا إبراهيم في عام 2091 قبل الميلاد، بينما حديث أسطفانوس في عام 35 بعد الميلاد، وهذا يؤكد أهمية الأمر عند كل الأجيال من ناحية، كما يؤكد من ناحية أخري أن إبراهيم كان سعيداً جداً بهذه الرؤيا التي أسست علاقة طيبة بينه وبين الله، وكانت هذه الرؤيا بمثابة الجذب المغناطيسي الذي حركه حيثما حل وذهب، وهل يستطيع الحديد المقترب من القطب المغناطيسي إلا أن يسير أسيراً لهذه القوة المغناطيسية وفي دائرتها؟ لقد ضرب إبراهيم في الأرض وهو لا يعلم إلى أين يأتي، لأنه سبي بشخص الله الذي ظهر له فيما بين النهرين قبلما سكن في كنعان. وهناك إشارة في الأدب المسيحي إلى المقارنة التي واجهت إبراهيم في أول الطريق، حيث تقول التقليد إن النمرود والذي كان جبار صيد اضطهد إبراهيم إضطهاداً مريراً، عندما تحول عن العبادة الوثنية، وأن تارح أباه قد يكون عمل نفس الشيء، ولكن إبراهيم ظل أميناً لله ومصدقاً للرؤيا التي أضاءت حياته بهذا النور العامل المجيد، وتحمل إبراهيم كل شيء لأجل الله، وربما أنه أقنع أبيه إذ خاف عليه أن يتركه فأخذه معه، ولكنه مات في منتصف الطريق، لأن الرحلة طويلة، والرجل قد وصل إلى أصعب أيام العمر، ووقت انحلاله قد حضر، ولم يعد قادراً على الألف ميل، وربما هو في الطريق راودته رغبة العودة إلى الماضي القديم، إلى بلده مركز عبادة القمر العظيم. إن إبراهيم هو أبو كل الأديان، فهو أبو يعقوب إسرائيل والديانة اليهودية، وهو الجد الأكبر للسيد المسيح والمسيحية، وهو أيضاً جد إسماعيل أبو العرب وجد رسول الأسلام. إن إبراهيم من أكبر المحطات التي تلتقي فيها كل الأديان.