ü صباح الجمعة خرجت باكراً- على غير العادة- ألتمس صحف اليوم علّني أحيط بآخر الأخبار عن «مشروع» وزير العدل محمد بشارة دوسة لتفعيل «قانون مكافحة الثراء الحرام» من خلال إنتقاله شخصياً ومكتبه لمباني الإدارة العامة لمكافحة الثراء الحرام، إبتداء من يوم الخميس- حسبما أفاد ضمن ردوده على استفسارات نواب المجلس الوطني عن أداء وزارته يوم الإثنين- ونقلته صحف الثلاثاء.. اشتريت معظم الصحف ولكن خاب ظني فلم أظفر بخبر واحد لا في الصفحة الأولى- كما هو متوقع- ولا في الصفحات الداخلية، إلا من بعض تقارير أُعدت قبل الموعد المضروب، وتعليقات تحمل وجهات نظر أصحابها حول تصريحات وزير العدل. ü مبعث اهتمامي بإفادات دوسة هو أولاً قوله إنه سيلجأ لسؤال العدالة الجوهري لكل من بدت عليه نعمة غير معهودة، واستدعاء كل من حوله شبهات بثراء حرام ليقول له «من أين لك هذا؟» وأن أي شخص لا يتمكن من الإجابة على السؤال سيطلب منه- كما قال- « التحلُّل»، وفي حالة الرفض سيحال للمحاكمة.. فتساءلت بيني وبين نفسي- وأنا أطالع هذه الفقرة من تصريحات دوسة- من هم هؤلاء الأشخاص الذين يعنيهم الوزير، هل هم مسؤولون في الدولة بدت عليهم شبهة الثراء الحرام، أم هم آخرون يمثلون غطاء لنفوذ المسؤولين أطلق عليهم لقباً غامضاً - «الجوكية»- فعاثوا في أموال المصارف والمودعين بالباطل بوحي من أصحاب النفوذ . فالجوكي لفظ إنجليزي يطلق على الفارس الذي يمتطي فرس الرهان، نيابة عن صاحب الحصان الأصلي، ويحصل على جزء من الجائزة لقاء جهده في السباق، ولكن معظم مال الجائزة يذهب لمالك الجواد، كما هو معروف. ü ومبعث اهتمامي ثانياً، هو أن الوزير دوسة خالف ما درج على ترديده مسؤولون في قمة الدولة، من أن إتهامات الثراء الحرام والفساد يجب أن لا تطلق بدون أدلة دامغة ووثائق ثبوتية، وإلا اعتبرت قذفاً في حق المتهمين، وجاء دوسة ليخالف هذا النهج، بعزمه على استدعاء كل من حوله «شبهات» بثراء حرام ومواجهته بالسؤال القانوني «من أين لك هذا» أو من أين لك ذاك المال، أو تلك البناية، أو المزرعة أو الأنعام، وأن من لا يتمكن- كما قال- من الإجابة على السؤال سيطلب منه «التحلُّل».. والتحلل عبارة فقهية ذات مدلولات دينية، تعني التخلي عن ما حازه الشخص من مال أو أرض أو نعمة بغير وجه حق، وإن لم يفعل فسيحال للمحاكمة.. وأهاب بالمواطنين بمده «بأية معلومة خاصة بالثراء الحرام». ü فإذا كان الوزير دوسة جاداً فيما ذهب إليه، ولم تكن إفاداته من قبيل «الدعاية السياسية» في وقت تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية حادة، ونذر أزمة سياسية عبرت عنها التظاهرات المحتجة على الضائقة المعيشية، فإن عليه بحكم منصبه كوزير للعدل ونائب عام- أو «محتسب»- بلغة السلف- أن يبدأ من الأول وليس من الآخر، وليس ذاك بأمر عسير، بأن يبحث في ملف كل مسؤول تطاول به العهد في موقع المسؤولية، وينبش في سيرته الذاتية.. ماذا كان يعمل قبل أن يرتقي منصبه الدستوري أو موقعه العام، كم كان دخله.. وما مقدار ما حصل عليه «رسمياً» من رواتب ومخصصات خلال تسلمه المسؤولية.. وهل يتناسب وضعه المالي وأملاكه الراهنة مع دخله المعلوم و«الحلال»، حتى يصل بنفسه لهذه «المعلومات» التي يطالب «المواطنين« أن يمدوه بها ليفعِّل قانون أو سؤال: من أين لك هذا؟. ü نعم، المواطنون السودانيون يعلمون الكثير عن أحوال من حولهم من مسؤولين تطاول بهم العهد في مواقع المسؤولية، ويتذكرون جيداً أيضاً كيف كانت أحوالهم قبل الوصول إلى منصابهم العتيدة، وكيف صاروا بعد بضعة سنين من ذلك الوصول، ويحكمون بينهم وبين أنفسهم ويستخلصون النتائج، ولكن لأنفسهم ولقناعاتهم الخاصة، لكنهم لا يملكون الوثائق والأدلة والبراهين التي تمكنهم من مقاضاة هؤلاء، لسبب بسيط هو أن الفاسدين والمفسدين لهم من وسائل التربص ومقدرات التخفي ما يمحو من خلفهم كل آثار الجريمة.. وبالتالي فإن طلب وزير العدل للمواطنين لمده «بأية معلومة خاصة بالثراء الحرام» هو طلب في غير محله وتوجه للعنوان الخطأ للحصول على المعلومات. وربما كان يكفيه فقط تتبع شهادات الذمة المالية المطلوبة قانوناً من كل من يتولى منصباً دستورياً أو وظيفة عامة، للوقوف على مدى التزام هؤلاء بما هو مقرر عليهم ومدى شفافيتهم مع المنصب الذي تولوه.. كم مرة قدموا شهادة لإبراء الذمة، وما هو محتواها منذ تقلدهم المنصب الرفيع، وكم من السنوات تفادوا إبراء ذممهم؟.. وهناك مثل سوداني فصيح يقول: « البياكلك أبْصر منك» أي أنه قادر على خداعك ويفكر ألف مرة قبل الإقدام على جريرته، حتى لا تتمكن أنت أو غيرك من ضبطه في حالة تلَبُس فيعرض نفسه للعقاب. ü لن نكون مثاليين، ونتوقع أن نرى بلادنا مطهرة وخالية من الفساد، فهي كغيرها من بلاد العالم- والثالث منه خصوصاً- تعاني من غياب الشفافية والديمقراطية في إدارة الشأن العام. وإفادات دوسة ونيته الخالصة وعزمه المعلن على مطاردة الفساد والمفسدين- مشكوراً- لدرجة نقل مكتبه إلى الإدارة المختصة بمكافحة الثراء الحرام.. تؤكد شعوره بأن سيل الفساد قد بلغ الزبى في بلاد يشكو أهلها العوز ويفتقرون إلى شربة ماء نظيف، وإلى لقمة تسد جوعتهم، لكن هذا لن يتأتى عبر مجموعة من الإجراءات المستعجلة، كاستعجال «الجوكية» في حلبة السباق، أو في اقتناص أموال البنوك.. هذا يحدث فقط عندما يقرر القائمون على الأمر- جميعهم- إعمال القانون ومناهج الشفافية في كل مرفق من مرافق الدولة، وإلحاق العقاب الصارم على رؤوس الأشهاد بالفاسدين والمفسدين، وليس بمناهج «التحلُّل» و «التسويات» و«السِتْر» الذي يغري بالمزيد من الفساد.