عندما كنا نتشاور مساء الجمعة -الاول من أمس- حول (الخطوط العريضة) لصحيفة الغد -أمس السبت- خطر لي وأنا أتحدث مع الأستاذ عبد العظيم صالح مدير التحرير أن تحمل خطوط الصحيفة كلمتي (الفرصة الأخيرة) مقرونة بالتوقيع على الاتفاق الذي تم في العاصمة الاثيوبية «أديس ابابا» بين وفدي حكومتي السودان ودولة جنوب السودان، وفي رأيي الشخصي أن الاتفاق بين الطرفين هو (فرصة أخيرة) حقاً لسلام دائم وجوار آمن، وكنت أرى من زاوية النظر الإيجابية أن لزيارة السيدة هيلاري كلينتون وزير الخارجية الأمريكيةلجوبا علاقة ب(انصياع) وفد دولة جنوب السودان للمنطق الذي قاد للتوقيع. احسنتُ الظن -وغيري كثيرون- بالإدارة الأمريكية، وقرنت تصريحات المبعوث الأمريكي للسودان (ليمان) الأخيرة حول العلاقات بين البلدين، و( أسفه ) على تدهورها، قرنت تلك التصريحات بما (تصورت) أنه دفع إيجابي من قبل الإدارة الأمريكية للطرفين حتى يصلا الى إزالة (شبح الحرب) من على حدودهما المشتركة، وأن يسعى الطرفان الى (تسوية) القضايا العالقة بينهما، وهذا يعني بلغة الدبلوماسية تقديم (تنازلات) عن المواقف المتشددة لكل طرف. هذا ما حدث مساء الجمعة، لكن الذي حدث صباحه كان مختلفاً تماماً، إذ تلقيت على صندوق بريدي الالكتروني، رسالة من صديقي الأستاذ محمد يوسف الحسين الذي يقيم في «واشنطن» بالولايات المتحدةالأمريكية، وفيها تلخيص لمقال نشرته صحيفة «الواشنطن بوست» للكاتبين «جون برندر غاست» و«ديف ايغرز» كان عنوانه (حتى لا يتحول السودان الى سوريا أخرى)، وفي المقال تحامل كبير على نظام الحكم في «الخرطوم» وتحامل أكبر على الرئيس عمر حسن أحمد البشير، واتهامات ل(مجموعة البشير) -كما جاء في المقال- بالسيطرة على الحكم من خلال تقسيم وقهر المعارضين دون الاتجاه نحو فتح آفاق للتنمية السياسية والاقتصادية. حصلت على المقال، ووجدتُ فيه أن الكاتبين يمثل أحدهما، وهو «جون برندر غاست» أحد المؤسسين المشاركين في مشروع (كفاية) الامريكي (إنف) ومشروع «القمر الصناعي الحارس» بينما يمثل الثاني وهو «ديف ايغرز» مجموعة من الناشطين الأمريكيين لنشر الديموقراطية، وهو مؤلف لكتابي «وات إذ ذا وات» و«صورة ثلاثية الأبعاد للملك». حصلت على المقال، وقرأته وخرجت منه بذلك (التحامل) الذي أشرنا إليه، مع التركيز على أن قاعدة الدعم التي يرتكز عليها الحزب الحاكم داخل السودان، هي قاعدة (صغيرة) للغاية، وأن النظام السوداني الحاكم الآن سيواجه بمجموعة من التحالفات القادرة على الاطاحة به خارج المعادلة تماماً، إذا ما التزم -فعلاً- بالاتفاقيات وسمح لخصومه بالمشاركة في الانتخابات والحكم بحرية، وليس أمام الرئيس البشير -حسب المقال- سوى خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يتكيف مع الأوضاع بشكل جذري، وإما أن يفقد السلطة (!) الآن.. ومن خلال ماقال به المبعوث الأمريكي للسودان، ومن خلال لغة الدفع الإيجابي التي جاءت على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» لكل من «الخرطوم»و«جوبا» يوم الجمعة.. ومن خلال المقال المنشور يوم الجمعة نفسه يتضح لنا أن هناك مجموعتين سياسيتين تصطرعان على السودان وجنوبه.. مجموعة مع (السلام الدائم) وهذه يتقدمها فريق الرئيس الأمريكي «باراك اوباما» الذي يريد انجازات افريقية (حقيقية) قبيل خوض معركة الرئاسة القادمة.. وفريق يقوده صقور السياسة الأمريكية الذين يعبرون صراحة عن الخط (الصهيوني/المسيحي) المتشدد الذي لا يرغب في وجود دولة ترفع شعارات الإسلام في المنطقة التي أخذت تشهد تحولات كبيرة وعميقة في خارطة الحكم والسياسة منذ ما عرف بثورات (الربيع العربي). السودان سيصبح ساحة للمزايدة السياسية بين تيارين أمريكيين، كل تيار منهما يؤسس لنجاحه وفق قاعدته الفكرية التي ينطلق منها، ولكن كليهما ينسى أهم أطراف اللعبة، شعب السودان.