المنتدى الدوري الذي تنظمه وترعاه الأمانة السياسية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بولاية الخرطوم، ويتخذ من صالون أمينه السياسي د. نزار خالد محجوب مقراً له، تحت عنوان «مفاكرات» يمثل في جوهره إحساس الحزب الحاكم بالحاجة للتغيير، باعتبارها «حاجة قديمة» عمرها بعمر «الإنقاذ»، ولكنها بدت حاجة متجددة ومواكبة للمستجدات التي طرأت على الساحة، وأبرزها المتغيرات التي تشهدها المنطقة مع أجواء «الربيع العربي» التي أطاحت بأكثر من نظام شمولي أو فاسد، تحت شعارات رفعتها تلك الشعوب، وفي مقدمتها الحرية ودولة الدستور والقانون والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والغلو باسم الدين، أو باسم القومية والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم في مقابل استئثار الطبقة الحاكمة بخيرات الوطن. ü لم تنطل إدعاءات بعض صقور الحزب الحاكم على عقول الشعب السوداني بأن السودان هو مفجر «الربيع العربي» وقائده، فهو الأول بين شعوب المنطقة من حيث النضج السياسي، باعتراف النخب السياسية العربية والأفريقية وحتى الغربية، ولديه رصيد ضخم ومتطاول من التجارب السياسية المتنوعة سبق به كل تلك الشعوب التي تعيش «الربيع» الآن، مما جعله ينظر باستغراب ويستمع بدهشة لأولئك القائلين إن ما يحدث في تلك البلدان الغربية ماهو إلا تكرار ومحاكاة لربيع السودان الذي بدأ بنهاية «يونيو 1989). ü حتى النخب المنتمية تاريخياً للتيار الإسلامي، والتي تتحلى بقدر من المصداقية، وتخشى أن يأخذ الناس عليها خطيئة التضليل والتدليس لم تجد بداً من مواجهة هذا الإدعاء في «جلسة صفاء»، كتلك التي انعقدت (الجمعة) بصالون د. نزار.. كنت اسمع لدكتور حسن مكي مدير جامعة أفريقيا العالمية يقول: إن أخطر مشكلة كانت تواجه المسلمين طوال تاريخهم كانت هي «الاستبداد» لأن الاستبداد في العالم الإسلامي يؤدي إلى «الشخصنة» التي تؤدي إلى انتهاء أي مشروع، وتحوله إلى عبادة الشخص أو المرحلة، وهو ما يؤدي إلى ضياع قيم كثيرة وكبيرة جداً.. وأضاف: إن السودان كان رائد «التحول الإسلامي» في المنطقة، ليس من عام 1989، بل منذ الخمسينيات، لكن كانت مسألة الشخصنة دائماً هي الأساس واضعفت المؤسسية، لذلك فإن التحول الإسلامي في السودان في (89) كانت واحدة من نقاط ضعفه الأساسية مقارنة مع ثورات الربيع العربي، «أن ثورات الربيع العربي كلها طالعة تنادي بالحرية وبسيادة القانون وبالشفافية والمحاسبة والمؤسسية» وطبيعة الطريقة التي جاء بها المشروع الإسلامي في السودان مختلفة، فمثلاً الرئيس محمد مرسي يطلِّع قانون إلغاء حبس الصحفيين، وعندنا في السودان الرقابة على الصحافة، كما أن هناك على صعيد الممارسات أشياء مشابهة «لا يحب الناس ذكرها» مثل تزييف الانتخابات وتزويرها «باعتبارها عبادة»!. ü المهم في إقامة حسن مكي اعترافه الصريح، الذي يستحق الإحترام، بأن ما حدث وما يحدث عندنا منذ وصول «الإنقاذ» إلى الحكم، ماهو إلا قفز على الشرعية الدستورية عبر الانقلاب العسكري، وبالتالي إقامة نظام شمولي استبدادي يرفض التداول السلمي للسلطة، ولا يتورع عن ممارسة كل الوسائل- مهما خالفت قواعد العدالة والتدين والأخلاق في سبيل الابقاء على الحكم، ولم يجد البروفيسور إبراهيم أحمد عمر القيادي البارز في الحركة الإسلامية والحزب الحاكم في مداخلته بداً من الإشادة برؤية حسن مكي باعتباره مؤرخاً كبيراً - كما قال - لكنه حاول الالتفاف على التفريق الصريح لمكي بين الحالة السودانية «الإنقاذية» وبين الطبيعة الشعبية والديمقراطية لثورات الربيع العربي بالتساؤل عن: هل الحرب الدائرة في السودان، وفي دول الربيع العربي هي نفس الحرب، وهل تختلف مطلوباتها في السودان عن دولة الربيع العربي.. موحياً بذلك لمستمعيه بأن الوصول إلى السلطة عبر «الانقلاب العسكري» حتمته طبيعة الحرب الأهلية التي كانت دائرة في البلاد.. ونسي البروفيسور عمر أن الناس لا ينسون أن الإنقلاب نفسه كان دافعه الأول والمباشر هو استباق عملية السلام التي بدأت تتبلور في ذلك الوقت بين القوى السياسية الشمالية المؤتلفة في الحكم وبين الحركة الشعبية التي تحارب في الجنوب في ما عرف حينها ب(اتفاقية الميرغني - قرنق) أو مبادرة السلام السودانية، ليأتي النظام الجديد- يا للمفارقة- ويذهب للتفاوض مع الحركة ولينتهي لاتفاقية سلام «نيفاشا» التي كانت أبرز نتائجها تقسيم السودان وانفصال الجنوب، بينما لم تكن مبادرة السلام التي تم اجهاضها بالانقلاب، تتضمن في أي من بنودها نصاً على تقرير المصير أو الانفصال، بل إقامة سودان ديمقراطي موحد وعادل يستوعب كل أبنائه. ü حسن مكي لم يكن وحده الذي وصف الوضع السياسي الراهن في السودان بأنه مفارق ومصادم لأوضاع البلدان التي شهدت وتشهد «الربيع العربي» في تلك الجلسة التي وصفها محرر «الصحافة» السياسي ماجد محمد علي في عنوانه ب«أنسنة الصراع» فبين حضور «الندوة النخبوية»، كان هناك المحامي علي السيد القيادي المعروف في الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي قال: إن موجة الربيع العربي انطلقت ضد الأنظمة الدكتاتورية، ومن أجل الحرية والعدالة الإجتماعية، وهي كل المنطلقات المتوافرة في السودان، مما يجعل وصول الربيع العربي إلى الخرطوم مسألة وقت، وتساءل علي السيد إن لم يكن هناك حريات، ولم تكن هناك عدالة أو عدالة إجتماعية فماذا سيحدث، وأجاب: ربما سيتأخر الربيع عنا، لكنه سيأتي ولو بعد حين، وقال إن جوهر الصراع في السودان ليس هو «الدين» بل هو «السلطة». وعزز من هذا التوجه قول د. إبراهيم الأمين، أمين عام حزب الأمة، بأن البلاد «تواجه محنة حقيقية» لابد من «الاتفاق» على حلول لها، وأن السياسيين لا يقومون بتقويم تجاربهم، مما يجعل السودان ساحة مفتوحة للتجارب الفاشلة على امتداد النخب والعصور والأنظمة الحاكمة.. والمهم- كما قال- أن كل النخب قد اتفقت على «النظام الديمقراطي»، وأن شعارات الربيع العربي تظلل أجواء كل بلد لا توجد به حريات، أي أنها موجودة على أرض الواقع هنا في السودان لأن الصراع موجود.. وأن هناك أسباباً أخرى للصراع غير الدين تتصل بالمطالب السياسية و«أن هذا النظام بشكله الحالي لن يستطيع حل مشاكل السودان وستظل الأزمة قائمة». ü هكذا شخص حضور منتدى «مذكرات» الوضع السياسي الراهن، وباستثناء أصوات قليلة، كان الاجماع بين النخبة الحاضرة التي ضمت أيضاً البروفيسور عوض السيد الكرسني، والدكتور محمد محجوب هارون، والمهندس جار النبي، والأستاذ عبد الله آدم خاطر، والبروفيسور عبد الرحيم علي وآخرين، أن هناك حاجة ملحة للتغيير، في بلد يشهد صراعاً سياسياً واجتماعياً حاداً، لم يتمكن النظام الحاكم بعد قرابة «الربع قرن» من حسمه، وهذا ما ركز عليه حسن مكي الذي أشار إلى أن «تطاول البقاء في الحكم» هو في حد ذاته «مفسدة» منذ العصور الأولى لدولة الإسلام. ü فهل يمكن أن تتحول «مفاكرات» د. نزار خالد المسؤول السياسي للحزب الحاكم بولاية الخرطوم إلى مدخل ل«تفاهمات» بين القوى السياسية والنخب الفاعلة فيها، تغادر البلاد بها محطة الاستقطاب السياسي والجهوي وحروباته، بحيث يصبح صوت العقل المفضي إلى التحول السلمي الديمقراطي هو الأعلى، وتتراجع أصوات التشدد والتطرف التي تطرح شعارات القوة والغلبة: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»؟ وبذلك تصبح «المفاكرات» بمثابة جهد مخلص من قبل مسؤولين في النظام يمثلون تياراً إصلاحياً أرخى السمع لصوت الشارع واستجاب لمعاناة أهل السودان، التي طالت واستطالت، ولأشواقهم للحرية والعدالة الاجتماعية والانصاف، وليس مجرد محاولة «احتواء» لمطالب التغيير عبر «الكلام من أجل الكلام».