هذه ليست إحدى مدن السودان من أين لها هذه الألوان من أين لها هذا الطول التياه لا شك قطار الغرب الشائخ تاه وسألنا قيل لنا الخرطوم هذه عاصمة القطر.. على ضفاف النيل تقوم عربات.. أضواء.. وعمارات وحياة الناس سباق تحت السوط هذا يبدو كحياة الناس.. خير من نوم في الأرياف يحاكي الموت ما أتعسها هذي الأرياف ما أتعس رأساً مشلول الأقدام.. محمد المكي إبراهيم.. قطار الغرب ويأتي الدكتور الخضر.. والي الخرطوم.. وتأتي معه أجندة التفاكر.. وبالحزن كله والأسى أجزله.. والحسرة أعمقها وأفدحها.. إن التفاكر كان يحمل عناوين تفيض أسى وتتسربل بالدهشة.. كان البند الأول.. يعلن وباعتراف الوالي نفسه أن الخرطوم مدينة متسخة.. بل هي ليست أكثر من بركة آسنة.. والبند الثاني هو عذاب يكابده شعب الخرطوم.. وهم يلهثون تحت أشعة الجحيم بحثاً عن مركبة تحملهم إلى حيث يبطشون أو إلى ديارهم حيث ينامون.. البند الثالث هو.. كيف يكون العلاج وكيف اصطياد الدواء لأجساد عليلة بأقل التكاليف الممكنة؟.. أما أنا بعد أن علمت بهذه الأجندة.. وبعد أن تبدت لي المحاور جلية ناصعة.. فقد نذرت للرحمن صوماً.. ولم ولن أحدث في تلك الجلسة إنسياً.. غادرت روحي الكرسي وتسللت إلى شرفة القاعة الفخيمة.. وهومت حتى تبدى أمامي ظلام كثيف.. وعدت إلى تلك الأيام.. ونحن في شرخ الشباب.. لأستدعي ود المكي.. ذاك الذي كنت أبكي مع قطاره- قطار الغرب- قبل ستين سنة وتزيد.. يا إلهي.. كان القطار في ذاك الزمان يتلوى كثعبان هائل.. يغشى المحطات.. محطة.. محطة.. وكشافاته.. تفضح البؤس.. والقبح والجفاف.. والمسغبة.. والفاقة.. والبيوت الطينية المهترئة.. والأكواخ البائسة اليائسة المتشققة.. في كل مدينة.. طاف بها ذاك القطار.. ليصل الخرطوم.. حيث تعشى حتى عيونه رغم بهرة الكشافات.. أنوار الخرطوم.. ثم كان ذاك المقطع.. الذي تصدر حديثي هذا.. وصفاً وتصويراً للخرطوم.. قبل أكثر من ستين سنة.. ويا للمفارقة.. فقد كانت الخرطوم رأساً مرصعاً بالنور والنظافة والجمال.. رأساً مشلول الأقدام.. فقد كانت أقدامه والتي هي كل مدن السودان.. غير الخرطوم.. كئيبة.. مسكينة وبشعة.. كالحة وبائسة.. وأين أنت يا ود المكي.. فها هي الخرطوم.. تلحق بتلك الأقدام المشلولة.. بل مريضة وكسيحة.. وأترك قطار الغرب.. وأترك الصديق السفير.. البديع ود المكي.. فقد تزاحمت الصور في رأسي.. بل تصارعت وتقاتلت.. كل صورة.. تدفع الأخرى.. لتستقر على شاشة الخيال التي أنصبها أمام عيوني.. وأبدأ.. أولاً.. أنا لا أحمّل الدكتور الوالي.. أي مسؤولية أو تقصير.. لأن حديثي ليس عن الخرطوم وحدها.. بل عن وطن بكل أطرافه.. بكل أرضه.. بكل شعبه.. وما ذنب الوالي.. في تدافع هذه الصور التي سوف أعرضها الواحدة تلو الأخرى.. فأنا لا أحس بأي حقد نحوه.. ماذا جنى حتى تمسه أضغاني.. بل على عكس ذلك تماماً.. أقول.. وفي ذلك أستوحي فقط رقابة ضميري والخالق.. إن هذا الرجل ألقيت على عاتقه أمانة تهد الجبال وليس تهد جمال الشيل السايرة في العتامير ليل.. وأنا واثق إنه للصدق والجدية التي عرفت عنه سوف يمسح بعض البثور التي انتشرت في وجه العاصمة الذي كان جميلاً.. أنا أتحدث عن نظام جاء إلى حكم الوطن وهو يرفع لافتات هائلة الأماني.. مسرفة في الأحلام.. محتشدة بالوعود الشاهقة الشاسعة الخلابة.. وعدتنا الإنقاذ عند إعصارها ذاك بأننا موعودون بالعيش تحت ظلال دولة عظيمة.. هائلة الصناعة.. وفيرة الزراعة.. بل أسرفوا في الوعود حتى خلنا أننا فعلاً سوف ننام ونتكيء على سرر الدنيا المرفوعة.. وفاكهة دنيوية لا مقطوعة ولا ممنوعة.. وأصوات شنان.. ومحمد بخيت.. وقيقم.. تجلجل في الفضاء.. حنشيد نحن بلادنا وحنفوق العالم أجمع.. وها نحن وبعد ثلاث وعشرين سنة وتزيد.. نتفاكر راعٍ ورعية في كيف ننظف العاصمة من الأدران والأوساخ.. وكيف نوفر مقعداً لراكب في حافلة.. وكيف «نطعن» مريضاً بحقنة مدعومة.. أو رخيصة. والأحد.. نلتقي