قبل يوم واحد من شهر رمضان المعظم جاءني استدعاء من «سجن كوبر الاتحادي» لحضور تنفيذ حكم الإعدام على بعض المدانين تحت المادة «130 من القانون الجنائي السوداني».. بعد استنفاذ كافة مراحل التقاضي والطعون..! ولم يكن في مقدورنا أن نفعل شيئاً سوى محاولة أن «يعفو» أولياء الدم عفواً خالصاً لوجه الله أو مقابل الدية.. وبدأت مساع حثيثة واتصالات مكثفة لتخليص الرقاب من حبل المشنقة!.. خصوصا وأن المحكوم الأول شقيق المجنى عليه «أي أن ولي الدم هو والد القاتل والقتيل».. وقد جاء في هذا اليوم العصيب ليشهد تنفيذ حكم الإعدام في ابنه ..!! فلبس كل السجن حُلة الرحمة حتى لا يخسر الأب الاثنين معاً.. ولأن القاتل تاب وندم وحفظ القرآن!!.. في هذه اللحظات الرهيبة يصعب على الإنسان الانتباه لأي شيء.. ولكن ما لفت نظري فعلاً النظام.. الانضباط.. والرحمة والإنسانية ابتداء من اللواء شرطة القائد الإنسان ابن الجنوب الحبيب سمير خميس.. مدير السجن الاتحادي الذي فتح أبواب مكتبه وقلبه لكل الناس حتى الجنود في محاولة مستميتة لإثناء الأب عن رغبته في تنفيذ القصاص على ابنه.. وقد شاهدت وسمعت ما غير اعتقادي الجازم بأن ضباط السجون على وجه الخصوص يتسمون بالقوة والشدة والقسوة «بحكم وظائفهم التنفيذية».. لقد جرى العمل بتسلسل ونظام وحزم حتى الدقائق الأخيرة.. ولكن ما أدهشني فعلاً هو الروح الشفيفة التي تفيض رحمة وإنسانية ورفق.. والسيد اللواء وكثير من الجنود لا يتوقفون عن المحاولة.. حتى لحظة التنفيذ والتي حاولوا كثيراً إبعادي حتى لا أشهدها بحجة أن المرأة لا تحتمل ولكنني كنت متمسكة بموقفي على أمل أن يوفقنا الله.. لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون».. وبعد أن بلغت القلوب الحناجر نفذ حكم الإعدام بالتتابع.. ورأيت دموع الرجال.. رجال السجون والجنود قبل الأهل والأحباب.. فتلك رحمة المسلم على أخيه المسلم ولو عاد الزمان إلى الوراء صدقوني لما قتل أحد ولا سفكت دماء... لقد نفذ فيهم ما هو مكتوب لهم .. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء..» لقد سمعت أحد الجنود يقول متحسراً .. ليته عفا عنه لكن القصاص يطهره.. لقد كان هو نفسه الجندي الذي قاد المحكوم إلى المقصلة.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يُحرم الرفق يُحرم الخير».. لقد أكرم الله هؤلاء .. بالقوة ولم يعدمهم الرفق..! وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عائشة إن الله يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على سواه..» لقد رفض أولياء الدم العفو.. و هذا حقهم بلا شك.. وإن كان العفو ودرجته في مثل هذه المظلمة الكبيرة «لا ظلم أكبر من الشرك والقتل» لا ينالها إلا من سمت نفسه وارتقت فوق الأحزان وحب الانتقام.. وهي درجة الإحسان.. التي لا يبلغها إلا من آثر الآخرة على الدنيا..!! قال صلى الله عليه وسلم «مازاد الله عبداً بعفو إلا عزاً» التحية من مقام الحزن إلى اللواء الفذ سمير خميس وجنوده.. وأرجو أن تستفيد الدولة من هذا الرجل في دعم الوحدة.. فهو رجل محبوب قوي له حجة ومنطق.. والسجون مليئة بأبناء الجنوب ولابد من أن يكون لهم بالغ الأثر في أسرهم وأبناء جلدتهم .. زاوية أخيرة: قال تعالى: «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها...».