ولأنني جهرت بالذي يهمس به جل الناس سراً.. ولأنني مثل ذاك الوليد.. الذي صفع مواكب النفاق.. وغسل القذي من العيون المهزومة.. فقد قال الوليد والجماهير تنظر في خوف.. في غضب.. في فزع.. في نفاق.. لفرعون «وقلة عقله» وهو يتبختر عارياً كما ولدته أمه.. فقد فجر ذاك الوليد قنبلة لها دوي ونار ودخان وهو يقول «أنظروا إلى مليكنا العريان».. لا أعرف مصير ذاك الوليد ولكني أقول.. وملء فؤادي أسى.. وملء روحي حزن.. وملء عيوني فيض من الدموع.. إن الحكم الاستعماري كان أفضل من كل عهد وطني سداته ولحمته من مواطنين أنجبتهم هذه الأرض الطيبة.. نعم لست خائفاً من أحد.. بل لست معترفاً بأن هناك من هو أكثر مني وطنية وحباً شاهقاً لهذا الوطن العظيم.. الذي ركب في قنواته سناناً.. فقد كان ميراثي الذي به أفخر وأفاخر.. أتيه وأقدل.. أزهو وأتبختر.. ما كان عقاراً.. ولا مالاً.. ولا أطياناً.. كان ميراثاً من الجسارة والرجالة.. بل الموت دفاعاً عن الوطن.. والغناء حباً في الوطن.. كان ميراثي من جدي الذي آل لوالدي.. هو ترجمة حرفية لكلمات أمير الشعراء شوقي ذاك الذي قال.. وإذا تناهى الحب واتفق الفداء فالروح في باب الضحية أليق.. نعم أحبتي أنا حفيد أحمد الجعلي.. مقاتل من غمار الناس.. كان أحد الذين صنعت جثثهم المتاريس والحواجز والحوائط وهم يسقطون مضرجين بالدماء.. بل سابحين في الدماء قرابين للوطن في كرري.. مزقته دانات السردار.. نعرف له فضلاً.. نعرف له ديناً.. نعرف له وطنية.. نعرف له شجاعة.. نعرف له شهادة.. ولكنا لا نعرف إن كان له قبر أو كان أحد الضحايا الذين طفح بهم النهر.. نهر الدماء القانية.. أو كان جمجمة تلعب فيها الريح أسفل جبل كرري.. «كفاية والاّ أزيد» إذا الصارخون يسكتون والشتامون يخرسون.. لأن الوطن هو طين «لكاً» يجري في كل أوردتي وشراييني.. الوطن ثوب أتلفحه يقيني لسع البرد ولظى الهجير.. الوطن رايات ترفرف في تجاويف ضلوعي.. وأعود إلى أصل الموضوع.. وأقول.. نعم.. إن المواطنين.. كل المواطنين.. بكل ألوان أطيافهم.. وأحزابهم.. وطوائفهم.. وأعراقهم.. وأديانهم.. كانوا في نظر الإنجليز.. سواسية كأسنان المشط.. من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.. حاجز التوظيف والتشغيل هو الكفاءة وحدها ولا شيء غيرها مطلقاً.. ويستدير الزمان.. ويأتي حكم نوفمبر.. وهو أقرب الشبه بالإنجليز.. فقد كان المواطن يعيش في دولة الخدمة المدنية المنضبطة.. وكانت الحياة سهلة ناعمة ورفاه.. نعم هو حكم شمولي ودكتاتوري.. إلا أنه لم يمالِ ويداهن ويداعب الموالين.. ولم يكن.. وما كان له أن يستطيع التفريق بين مواطن ومواطن.. ورغم ذلك فقد كتب الراحل عمر مصطفى المكي.. كتب مرة «غرباء في بلادنا.. إن أكبر جالية في السودان هي الجالية السودانية».. وتمر الأيام.. وتكر الشهور.. وتتصرم السنون.. «ويوم داك قريب وما طول».. يعني قبل خمسة أيام.. يحزننا بل يعزز ثقتنا فيما نكتب الدكتور نافع علي نافع فقد كان الرجل ضيفاً على القناة الرسمية تلفزيون السودان الذي يسمونه «القومي».. وتحديداً كان ضيفاً على برنامج «في الواجهة».. وقاد الحوار أو الاستضافة الأستاذ أحمد البلال الطيب.. كان السؤال هو «يتحدث زعماء المعارضة في التلفزيون...» وليس مهماً السؤال.. فقد كانت الإجابة هي الزلزال.. أجاب الرجل وعلى وجهه ابتسامة ساخرة.. أو راثية.. أو هازئة بكل الذين لا يصطفون في صف الحكومة.. ولنكن أكثر دقة.. الذين لا يصطفون في صفوف المؤتمر الوطني.. قال الدكتور نافع «يعني» «حلال للطير من كل جنس».. ووقف هنا ولم يكمل بيت الشعر.. ونحن نتطوع بإكمال وشرح البيت.. والبيت يا أحبة هو.. «أحرام على بلابله الدوح.. حلال للطير من كل جنس».. والدوح هنا هو «الوطن» وتحديداً «السودان».. والطير من كل جنس هو «أي زول ما مع المؤتمر الوطني».. أما «بلابل الدوح» هم الأحبة في المؤتمر الوطني.. والذي فهمته من هذا الحديث أنه لا حق لطير أجنبي من كل جنس أن يكون له رأي.. أو حديث.. أو فعل.. أو ملاحظة.. في هذا الدوح المورق المزهر النضير.. بكرة نواصل..