ورد في أنباء الاسبوع الماضي أن وفداً من الكونجرس الأمريكي اقترح على حكومة جنوب السودان نقل بترول الجنوب عبر أثيوبيا بواسطة ناقلات بترول أرضية «تانكرز».. وهذا لعمري خطل محسوب ومقصود، إذ إنه وبكل المقاييس غير مجدٍ اقتصادياً وغير عملي سياسياً للأسباب التي سوف نوردها لاحقاً، والتي ستوضح استحالة تنفيذ هذا المقترح الخبيث، وهو مقصود منه مزيداً من الضغط على السودان، لذلك يجب أن لا نعير هذا المقترح اهتماماً أكثر من اللازم، وأن يقوى موقف مفاوضينا لأنه يعكس حالة واضحة من اليأس والوهن لدى الطرف الآخر ومن يساندونه. قبل التحليل المقترح أرجو أن أورد معلومات أساسية نشرتها في آخر لحظة قبل أكثر من عام، وتحديداً في أغسطس 2011 بعنوان «حرب البترول والانحناء للعاصفة»: أولاً: 80% من بترول الجنوب في المربعات 3 و7 المعروفة بحقول عدارييل، موريتا، فلج، وقمري.. وهي الكمية التي تتم معالجتها في الجبلين قبل ضخها الى بورتسودان، تقديرات إنتاج البترول في السودان وجنوب السودان 452 ألف برميل في اليوم، وتقديرات الصادرات 370 ألف برميل في اليوم- تقديرات بترول الجنوب 75% من كل البترول في السودان.. أي أن صادرات بترول الجنوب حوالي 275 برميل في اليوم منها 80% يتم عبر خط أنابيب بترودار من الحقول أعلاه عبر الجبلين للمعالجة والى ميناء بورتسودان- اي حوالي 220 الف برميل في اليوم- المقترح ينادي بترحيلها قبل المعالجة في الجبلين، وتصديرها بواسطة تانكرز برية عبر اثيوبيا المغلقة بدون موانيء الى موانيء جيبوتي- معلومة مهمة: خط بترودار الحالي من الجنوب الى بورتسودان عبر الجبلين في محطة المعالجة الضرورية علمياً لنقل البترول يبلغ طوله 1370 كيلو متر، وقطره 32 بوصة، وسعته التصميمية القصوى 500 ألف برميل في اليوم، وبه 6 محطات طلمبات ضخمة، جهاز تحكم مركزي، وبلوفة تحكم وقفل وجهاز حماية، ومحطات تسخين لإذابة الشمع على طول الخط.. كل ذلك بعد محطة المعالجة المركزية في الجبلين، والتي بدونها لا يمكن ضخ البترول مسافة 1370 كيلو متر الى بورتسودان التكلفة الكلية حوالي 2.5 مليار دولار وتم افتتاحه في اغسطس 2005م ثانياً: وقياساً على ما تقدم ذكره فإن هذا الخط المراد الاستعاضة عنه بنقل بري بالتانكرز كان ينقل حوالي 220 ألف برميل في اليوم بعد المعالجة في الجبلين والتسخين المستمر في محطات على طول الخط، وبكل دقة يضخ البترول مباشرة الى ناقلات البترول في ميناء بشاير في تحكم بديع بأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا أنابيب البترول.. في المقابل فإن سعة أكبر شاحنة بترول أرضي -تانكر- تبلغ حوالي عشرة الى أحد عشر ألف جالون والبرميل به حوالي 44 جالون- اي التانكر تحمل ما لا يزيد عن 250 برميلاً- أي بحساب بسيط- الجنوب محتاج حوالي ألف تانكر متواجدة في كل يوم عند ميناء التصدير في جيبوتي، ولك أن تتخيل أن المسافة من الجنوب الى جيبوتي حوالي 1.200 كيلو متر، ولو افترضنا أن سرعة التانكرز في المتوسط 60 كيلو متر في الساعة اي تحتاج الى 20 ساعة للوصول الى جيبوتي بحساب بسيط، حتى يتحقق نقل ال 220 ألف برميل الجنوب يحتاج الى أكثر من 20 الف تانكر لتغطية الرحلة ذهاباً وإياباً، وطريقاً معبداً مع الأخذ في الاعتبار مسألة التسخين المستمر للخام المطلوب، وغير المتوفر في التانكرز، ولكم أن تتخيلوا صعوبة إدارة اسطول بري بهذه الضخامة حتى يتم الاستعاضة عن خط الأنابيب القائم الآن- لذلك هذا المقترح لا يمكن فهمه إلا عبر البعد السياسي للضغط على مفاوضي السودان لمزيد من التنازل في المسائل الأخرى غير البترول، إذ إن ما تم الاتفاق عليه في سبتمبر الماضي في أديس أبابا حول البترول معقول ومقبول، إذ سوف يمنح السودان حوالي 26% من عائدات صادرات بترول الجنوب في الفترة من بداية ضخ البترول ولمدة 42 شهراً، وهي عبارة عن رسوم نقل البترول، رسوم المعالجة في الجبلين وقسط التعويض المتفق عليه ليدفع بواسطة حكومة الجنوب لحكومة السودان كتعويض لفاقد عائدات البترول الذي تم الصرف على كل استثماراته من السودان الموحد، والمبلغ المتفق عليه في سبتمبر 2012 هو 3.5 مليار دولار تقسم على أقساط لمدة ثلاث سنوات ونصف، وقلنا في أكثر من مقال إن هذه ال26% زائداً عائدات بترول السودان الحالية والتي تعادل 21.5% من جملة صادرات بترول السودان وجنوب السودان، يصبح العائد الفعلي للسودان ولمدة ثلاث سنوات ونصف 47.5% من جملة عائدات بترول البلدين، وهي كما قلنا تقريباً نفس النسبة طوال الفترة الانتقالية من 2005 الى 2011م. أما مسألة نقل بترول الجنوب بخط أنابيب جديد عبر كينيا الى انجمينا فقد ثبت اقتصادياً عدم جدواه، وسياسياً عدم ضمانه.. اقتصادياً يكلف حوالي 10 مليارات دولار لصعوبة اختراق الأراضي والمرتفعات، والحاجة الى محطات ضخ لا تقل عن 24 محطة، «الخط الحالي 6 محطات ضخ فقط، ولا تعمل كلها ذلك لسهولة الأراضي وتسطيحها».. الزمن المتوقع لإنشاء الخط 5 سنوات «خط بترودار بدأ العمل فيه أغسطس 2004 وانتهى أغسطس 2005- أي عام واحد» وتكلفة 2.5 مليار دولار شاملاً محطة المعالجة في الجبلين (حوالي 800 مليون دولار).. الأمر الثاني في عدم الجدوى الاقتصادية أن المخزون المؤكد بواسطة المخابرات الأمريكية في كتابها الدوري عن حقائق المعلومات في 2012م المخزون في الجنوب حوالي 2.75 بليون برميل منها 80% في حقول بترودار هذا.. اي 2.2 بليون برميل مقسومة على انتاج يومي حوالي 300 الف برميل تساوي حوالي 7 آلاف يوم أو حوالي 19 عاماً فقط، وهو بهذه الصفة ثروة ناضبة إذ إن عشرين عاماً من عمر الشعوب تعتبر قليلة.. البعد السياسي في عدم جدوى هذا الخط عبر كينيا هو عدم ثبات السياسات والأنظمة في افريقيا.. إضافة الى المصاريف الباهظة المتوقعة في حماية الخط عبر مناطق وعرة ومرتفعات خطرة يصعب تأمينها. لكل ما تقدم فإن فكرة بدائل لوسائل نقل خام الجنوب خارج السودان كلها ضغوط، وثابت تماماً عدم جدواها العلمية والعملية. والله الموفق