طغت الأحداث الكثيرة المتلاحقة على النزاع الذي نشب حول زيادة الحد الأدنى للأجور بين الاتحاد العام لعمال السودان ووزارة المالية. متعجلة اتخذت مؤسسة الرئاسة قراراً دون دراسة كافية سيجلب مزيداً من المصاعب والتعقيدات التي سيصعب حلها.. ولقد عجبنا لوزير المالية الذي كان أصلاً قد ترك الباب موارباً لتدخل مؤسسة الرئاسة بموافقته المتأخرة والتي كانت متوقعة سلفاً.. مؤكداً التناقض الذي وقع فيه وكنا نفترض أنه أعلم أطراف النزاع بالتداعيات السلبية التي ستصحب تنفيذ قرار زيادة الحد الأدنى للأجور.. فلقد كان من الممكن معالجة الأمر بدون تلك الدراما التي صحبته. وإن ظنت اللجنة التنفيذية لاتحاد العمال متوهمة أنها قد حققت إنجازاً لقواعدها نقول لها.. لقد جلبتم للعمال وكافة الناس مصيبة لا قبل لهم بتحمل نتائجها.. إن زيادة الحد الأدنى للأجور ستزيد من معاناة الجميع.. وكما تعودنا لا نؤسس لما نطرحه من آراء.. ونبدأ أولاً بتقرير الآتي: إن زيادة الأجور ستؤدى إلى إشعال فتيل التضخم.. وسيقود ذلك في نهاية المطاف إلى مزيد من الركود في النشاط الاقتصادي ومزيد من العطالة.. كيف ولماذا؟.. عانى اقتصاد البلاد ركوداً على مدى العامين الماضيين.. فانحسر المخزون من البضائع المنتجة محلياً وتلك المستوردة.. وبزيادة الأجور سيزيد إنفاق المستهلكين.. إن زيادة إنفاق المستهلكين تعني زيادة في الطلب على السلع والبضائع التي انخفض مخزونها.. نتيجة حتمية.. زيادة في الأسعار.. وانخفاضاً للقوة الشرائية.. أي.. مزيداً من المعاناة وترد في مستوى المعيشة.. إن زيادة إنفاق المستهلكين وارتفاع الطلب على السلع والبضائع والذي سيكون قصير الأجل سيغري ويدفع المنتجين إلى زيادة إنتاجهم ومستوردي البضائع إلى زيادة مخزونهم.. وكنتيجة لانخفاض القوة الشرائية سيتفاجأوا بدورة جديدة من الركود ستقودهم إلى التخلص من جزء من العمالة.. وسيعني ذلك مزيداً من العطالة.. وبذلك تعود الأمور إلى ما قبل مربع واحد.. وإن كان لابد من نصح نبذله فنقول أوقفوا تنفيذ هذا القرار فوراً رفقاً ورحمة بالبلاد والعباد. إن للمشكلة جذور قديمة تعود لعام 1992.. ذلك العام المشؤوم الذي سمي غفلة وجهلاً بعام «تحرير الاقتصاد».. إذ قام مهندسو السياسة الاقتصادية آنذاك بتحرير أسعار السلع والبضائع وأغفلوا النصف الآخر من السوق.. سوق العمل.. ولقد قلنا من قبل ونكرر القول الآن إن إنفاق المستهلكين هو المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي.. إذ لا إنتاج بدون استهلاك.. ولفائدة غير المختصين نقول يقصد بإنفاق المستهلكين ذلك الجزء من دخولهم الذي يتم إنفاقه لشراء السلع والبضائع والخدمات.. وبتقييد أسعار العمل يقل الإنفاق ويتباطأ النشاط الاقتصادي. إن آليات السوق إن تركت تعمل بحرية وبالحد الأدنى من التدخل الحكومي كفيلة بخلق التوازن وتحقيق النمو. والآن وبعد عشرين عاماً نجد أن نسبة الناشطين اقتصادياً لا تتجاوز 23% من إجمالي عدد السكان.. أكثر من ثلاثة أرباع سكان البلاد يعتمدون على دخل أقل من ربع عددهم. نرى أن المخرج من هذا المأزق يكمن في جمع المختصين من ذوي المعرفة والدراية لمعالجات الاختلالات التي تكتنف النظام الاقتصادي وأساليب إدارته. وفي يقيننا ينبغي أن يسبق ذلك أمران مهمان: معالجة الصراع الناشب حول السلطة وإيجاد حلول بديلة غير الحرب لمعالجة شأن الجماعات المتمردة لوقف النزيف المستمر للموارد.. إن أهم مناطق الإنتاج الزراعي والحيواني أصبحت الآن مسارح للحرب.. ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد..