صديقان يلتقيان بعد نصف قرن من الزمان.. عنوان جاء في عدد الأربعاء 13 / 3 / 2013م من صحيفتنا الحبيبة آخر لحظة، الصديقان هما الأستاذان علي فقير عبادي المدير المالي والإداري للصحيفة، وصديقه الأستاذ عبد الملك محمد ابراهيم النعيم، ويشير الخبر الى أنهما لم يلتقيا منذ العام 1964 حيث تخرجا من معهد تدريب المعلمين بشندي.. ولكن حبل الذكريات لم ينقطع وإن تفرقا، فقد ذكر الأستاذ عبد الملك أنه وطوال ترحاله وهو من أشد المتابعين لصحيفة آخر لحظة، بعد أن علم أن صديقه علي فقير هو مديرها المالي والإداري، وهذا تطبيق لنظرية الترابط فقد ارتبطت آخر لحظة عنده بصديقه العزيز، فكأنه كما نقول بالدارجة «يشم ريحتو فيها» ولا استغرب هذا التعلق بالأصدقاء مع طول الفراق، فالصديق مشتق من الصدق اذكر في مطالعاتي القديمة وفي كتاب لعله للدكتور طه حسين أن أحدهم طال علي الزمن لأتذكره لقي ابن المتنبئ فسأله منتقداً: أليس أبوك هو القائل:«ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد»، وأردف أما كان الأجدر به أن يقول «ما من مُداجاته بد» فإن الصداقة مشتقة من الصدق، ولا يمكن للإنسان أن يصدق من يعتبره له عدواً، والمداجاة فيها معنى المهادنة، والتصنع والمراوغة من ما يمكن أن يفعله الإنسان، إذا اضطرته الظروف للتعامل مع عدوه متقياً منه تقاة أو طامعاً في شيء منه.. وفي القاموس«داجاه.. أي سايره بالعداوة ولم يبدها له» وما إن نشر خبر لقاء الصديقين مصحوباً بالصور التي تنضح بحميمية العناق و«تحليقهم في سماوات الذكريات» حتى ظهر صديق آخر هو الأستاذ عتيق السيسي ليتصل بالأستاذ عبد العظيم صالح، يطلب رقم صديقه القديم الأستاذ علي فقير، الذي فارقه أيضاً قبل أكثر من نصف قرن، ومثل هذه الأشياء أو المصادفات تملأ قلب الإنسان بالفرحة، وقد حدث قبل سنوات أن أجرى معي تلفزيون عطبرة لقاء عن طريق الهاتف، تحدثت فيه عن مدينة بربر، وكانوا يعرضون في الفواصل مواد تسجيلية عن بربر، فاتصلت إحدى المعلمات اللاتي عملن معي بمدارس البنات من الدامر، تسأل إن كنت معهم بالاستديو، فهي لم تر شخصي بل صوراً، وكانت مرت عشرات السنين على عملنا معاً، وكانت لها علاقة وثيقة بابنتي الكبرى وأمها- أسرتي في ذلك الزمان- ولما علمت أن التواصل كان عن طريق الهاتف طلبت مدها برقم هاتفي، ولكنهم اعتذروا عن إعطائها رقمي إلا بعد موافقتي وأعطتهم اسمها، ولما اخبروني في الفاصل وافقت وكم كانت فرحة زوجتي عليها الرحمة، وبعودة التواصل لقاء الأصدقاء القدامى يكون فرحة وراحة للنفس، فكتاب الذكريات والمواقف الصادقة يكون أكثر صفحات واصقل ورقاً وأجمل خطاً وأصدق كلمات وأعذب تخيلا في العام 1957م، وكنت معلماً بمدرسة بربر الأهلية الوسطى، اتصل الأخ حسن الطاهر حسن حسين- امد الله في عمره وأسبغ عليه نعمة الشفاء، يخبرني بأن أحد معارفه عين معلماً ووجه للعمل ببربر، وبنفس المدرسة التي أعمل بها، وبما أن القادم من أبناء الابيض ولم ير بربر ولا يعرف أحداً بها فإن الأخ حسن يطلب مني استقباله بمحطة السكة الحديد أيام كنا نجد في مقابلة القطارات القادمة من الخرطوم نوعاً من الترفيه، فهي تصل بربر في العصريات فنجد فيها من القادمين الى بربر اخوة أعزاء يحملون لنا أخبار الخرطوم سياسية واجتماعية وثقافية، ويحملون لنا جرائد اليوم فنتوزعها بيننا ثم بعد قراءتها نتبادلها، ونجد من الذاهبين الى مصر أو كريمة اخوانا ربما طال الأمد على لقائهم، قابلت الأخ التيجاني محمد تابر الوافد الجديد على بربر، واستضفته بمنزلي مع مجموعة جاءت معه بنفس القطار للعمل بالمدرسة، وبعد أيام انتقلوا الى منزل آخر بعد أن أسسنا لهم «ميز» ومن بين الناس يختار قلبك دائماً من تصادقه وتصدقه، وهذا ما حدث بيني وبين الأخ التيجاني، صفت نفوسنا وتآلفت، وتصاحبت حتى ما كدنا يرى أحدنا إلا ويذكر الآخر، وقد حدث هذا من قبل مع أخي الذي لم تلده أمي المرحوم حميدة علي حميدة، وتجاوزت صداقتي للتيجاني تابر لتعم كل أسرتنا، فأصبح معروفاً ومألوفاً لدى كبيرهم أو صغيرهم جمعتنا الصدفة فألف الله بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته اخوانا، وبكل ما تحويه كلمة الأخوة وبكل ما تنطق به كلمة الوفاء، لا أريد أن أتابع نفسي في وصف تلك الأخوة النظيفة النقية، وافترقنا بحكم ظروف العمل، ولكنا كنا على اتصال دائم حتى أيام كانت التليفونات ثابتة والاتصالات عسيرة، وشاء الله أن يجمعنا مرة أخرى في ظروف الإعارة بالسعودية في مدرستين قريبتين من بعضهما هو بالدمام بالمنطقة الشرقية وأنا بالقطيف والتأم شمل الأسرتين، مما خفف علينا وحشة الاغتراب، تقاسمنا المشاعر والهموم والآمال والمطامح، وحتى فقد الأعزاء فقدت وأنا في الغربة شقيقتي الصغرى صفية، وفقد هو شقيقه الأصغر تابر، وعناية الله شاءت أن يكون كل منا بجانب الآخر.. وما أقسى مثل هذه المواقف في الغربة وعدنا.. ذهب هو الى الأبيض وبقيت بالخرطوم ورويدا رويدا شغلتنا الحياة، والتفت فجأة لأجد فجوة في الاتصال ولكنه بقي موجوداً بقلبي، واغتربت ثانية هذه المرة كان الاغتراب طويلاً والهموم والمسؤوليات كبيرة تعليم الأولاد، تعليم البنات، وزواجهن، تشييد بيت للأسرة، هموم الآخرين وتحقيق آمالهم فيك كمغترب، أعود في الاجازة وما القى أحداً من الأبيض إلا وأسأله عن الأخ التيجاني، وأحمله رسالة له لا أدري تصله أم لا.. علمت مرة بوفاة زوجته فاطمة التي كانت أمة كاملة أرسلت له برقية رغم مرور شهرين على الوفاة، لم تكن الموبايلات تعمل، ولا أعرف رقمه الثابت، فقدت زوجتي عواطف ابراهيم زروق حضرت للعزاء وصلتني التعازي من الأبيض، ولكن من آخرين، ومر الزمن وفقدت شقيقاتي الثلاث الأخريات.. وأخيراً فقدت زوجتي نفيسة حسن مكاوي عليهم جميعاً الرحمة، وفي كل مرة أفتقد مشاركته الأحزان ومواساته، لم أكن عاتباً عليه بقدر ما كنت أتمنى أن أسمع منه وأن نعاود الاتصال حتى جاء ابن خالي محمد أبو زيد هلال من الأبيض لوفاة شقيقته عليها الرحمة، فكلفته رغم مرضه أن يجد في ايصال الأخ التيجاني تابر رقم هاتفي، لا يمكن أن تتخيلوا عندما رددت على احدى المهاتفات وسألت من المتحدث، فأنا أعتمد على ظهور الأسماء لعدم براعتي في حفظ الأرقام، فرد المتحدث التيجاني تابر لا يمكن أن تتخيلوا كيف غلب الدمع علي وعجز لساني عن الكلام وأنا في سن متقدمة، أو قل قريبة من النهاية وأدرك هو ما أغالب، فقال ما تتكلم الآن وسأتصل مرة أخرى.. وحسناً فعل فما كان لأي منا أن يعبر عن شعوره في المحادثة الأولى، والذي لا أشك فيه أن كلانا قد سعد بعد أن ذابت تراكمات الجليد بعشرات السنين. أستأذن أن أحور شيئاً في أبيات الشاعر ميخائيل نعيمة فأقول: (إن الصديق لكالربيع تحبه للحسن فيه وتهش عند لقائه ويغيب عنك فتشتهيه كالزهر ينفح بالشذى حتى أنوف «القارئيه» أخي التيجاني ما يلقاني أحد من تلاميذنا إلا ويبادر بسؤالي عنك، وعلى رأسهم تلميذنا الرشيد علي الأمين من بربر القدواب.. الرشيد الصغير ولعله أصبح جداً الآن.