لأمر ما اضطررت لأبقى مدة شهرين في ركن معين في قلب السوق العربي. في ذلك المربوع الذي لا تتجاوز مساحته الألف متر إجتمعت كل صور المآسي التي تعربد في المجتمع السوداني المعاصر! ومن هذا المكان نأخذ عينة للفحص : على برندات طولها عشرون دكانا توجد مصطبات مغرية للعاطلين عن العمل. في مسافة مئة متر منه كان يسترخي ما يقارب الخمسمائة، بعضهم يحتضن جرايد كورة والباقي في مجالس حول ستات الشاي، وقليل منهم رأيتهم ينامون في (ضل الضحى) بملابس برتقالية اللون ولعلهم عمال صحة!! بين هذه التجمعات أيضاً عمال حفريات وآبار سايفونات يقطعون الوقت بأحجار لعبة السيجة!! القطاع العمري لهؤلاء لا يتجاوز الخمسين عاماً إلا لماماً رغم أنهم ليسوا أرباب معاشات إلا من فقد وظيفته للصالح العام.. مبعث الحسرة في هذا المكان هو هذه الأسئلة: كم هو محزن أن تهدر مثل هذه الطاقات البشرية في (ضل الضحى).. من أين يأكلون وماذا تنتظر أسرهم منهم.. ومن هو المسؤول؟!! هل هؤلاء مجرد كسالى آثروا الجلوس في الظل أم أن مواعين العمل ضاقت بهم لأن الأسواق معطلة؟ من مفارقات الطبقية التي يفرزها مجتمع منهار بالتضخم الاقتصادي. أن صاحب العمارة التي جلس أغلب هؤلاء في ظلها، ترك الدكاكين خالية من المؤجرين.. وعندما سألت خفير العمارة قال لي وهو يضرب كفاً بكف أنه غير محتاج (للقروش) وهو صاحب مصنع !! أي أنه بلغ من التخمة حد الإستغناء عن عائد الإيجارات. هذا الكم الهائل من المحلات خاليةً معطلةً في قلب السوق العربي من أجل هذا المزاج الغريب!! سبحان الله.. فهمت هناك معنى (بئر معطلة وقصر مشيد) من يجلس في الظل لا يملك(حق الفطور)وصاحب القصر مخنوق بالتخمة، هذه الصورة هي المآل النهائي لمجتمع ينخره التضخم الاقتصادي، و في وسط هذه الفجوة تنبت القنابل. هذه العطالة السودانية يشارك فيها مجموعة مقدرة من الشباب الصومالي والأثيوبي !! وظهرت مؤخرًا مجموعة من الهند وباكستان وبنغلاديش. رأيتهم يروجون لأدوية أعشاب تعالج الرطوبة وتساقط الشعر. هذا المجتمع من المتبطلين فتح سوقاً رائجاً لستات الشاي، لأن العائد من بيع الشاي فيه تجارة مربحة : دخلهن الشهري يعادل الألف والنصف (مليون بالقديم). لهذا ، التزاحم الشديد حول الدكاكين. فتحت المجال لإحداهن شفقة عليها فجاءت أخرى لتحتل مكاناً بالقرب منها بالقوة!! تصارعك المرأة مندفعة كأنها معركة حياة وموت. شاهدت من قبل في سوق بحري كيف أن إحدى ستات الشاي أدخلت صاحب دكان (الحراسة) لمجرد أنه احتج بوجودها بواسطة أبنائها الذين يعملون في الشرطة!! أصبح مألوفاً أن يهبط عليهن جنود (النظام)العام: يقلبوا الكوانين ويخطفوا ما خفَّ حمله من الأدوات والمرأة تتفرج دون حراك، وهناك منهن من تملك عيوناً وسط الجنود يخبرونها بوقت مجيء الكشة. شرحت لي إحداهن بصوت عال أن لديها من أولادهم هناك يخبروها وقالت أن هناك يوم (الدفار الكعب) ويوم (الدفار الكويس). في يوم الدفار الكويس يغضون الطرف عنها. بعد ساعات فقط تعود المرأة (غير المحمية) بأدواتها التي خطفها الجنود. وعندما تسألها عن الأتاوات والغرامات تقول لكل يائسة:(إنت وحظك) أحياناً ثلاثين وأحياناً خمسين وأحياناً أكثر!! وعندما تسألها عن مستند الدفع (الايصال)تنظر إليك بإشفاق ولسان حالها يقول: ما قيمة هذا السؤال وماذا ستفعل إذا علمت..وللحقيقة كنت أقطع الكلام حياءاً!! واحياناً تقول لك إحداهن إذا كانت من النوع التي تعودت على هذه المطاردات: لو ما عندك ناس يفكوك بالأرخص.. تحاكم ثم تدفع ما يقصم ظهرك. الذي يبدو أن هذه(الغرامات)ليست لمعالجة الظاهرة بل هي نافذة للجبايات ربما ملأت الخزينة العامة!! لهذا أصبحت المطاردات روتينية لا يريدها أحد أن تتوقف.. المرأة الضحية تعتبرها رخصة ولا تمانع أن يقاسمها هؤلاء دخلها الشهري. الضحية الكبرى هو جيب المواطن العاطل هذا الذي يجلس سحابة يومه فوق «المصاطب» ثم يضطر ليستدين(حق المواصلات) في نهاية اليوم. ظواهر مزعجة: أكثر الظواهر المزعجة في مجالس ستات الشاي هي: المدخنون وأطفال الورنيش الذين يلوحون(بالكشكاش) الذي يصدر صلصلة مزعجة. وإذا أحس هذا(الطفل) إنزعاجاً منك يمعن في الإنتقام! أعداد كبيرة من الأطفال (شبه المشردين) لا تستطيع إلا أن تضعهم في خانة القنابل الموقوتة التي تنتظر المجتمع على الطريق. وبين هؤلاء ظاهرة (الوناسين) وهؤلاء لا يهمهم في المرأة إلا جمالها، يجيدون مشاغلة النساء،بمصطلحات مثل: سلومي - خلوصي -سلملم - حلوم ... لغتهم دائما مفتوحة،أو مثل أن يفتعل معها(مشكلة) في الحساب ثم يقول لها هامساً (إنت صدقتي أديك عيوني) ولكن إنزلاق إمراة تعمل(من الشمس إلى الشمس) لاغراءات الرجال أمر ضعيف! ولاحظت في موقفي ذاك أن المرأة السودانية على غير المتوقع أكثر اهتماماً للنظافة والنظام أكثر من الأثيوبية التي كانت تجلس معها، وربما السبب أن حلقات الفقر التي بدأت تضيق في السنوات الأخيرة دفعت باعداد كبيرة من ربات البيوت المحافظات الى الأسواق. الأثيوبية بحكم خلفياتها التربوية كانت مدربة على العلاقات العامة ولاحظت ايضاً في الاثيوبية (أمانة) بلغت حدَّ رفض المقابل من زبون شرب شاياً (دون سكر). أغلب النسوة اللاتي صادفتهن في حالات طلاق ولم أفهم هل هي ثقافة الأسواق التي تغذى احساس المرأة بنوع من الندية في التعامل مع الرجال أم هي ثقافة المقارنة التي ينتجها الانفتاح على نماذج متفوقة في الأسواق؟؟ وقد بررت إحداهن كراهيتها لزوجها أنها بعد هذا العمل الشاق في الأسواق تقضي ليلتها مع رجل في حالة سكر دائماً!! هذه المرأة عندما إختفت سألت عنها ، قيل لي أنها باعت كل(عدة الشاي)ورجعت إلى بيتها لأنها وجدت رجلاً جديدًا إشترط عليها ذاك: ولم أجد إجابةً: هل هذا التطور يمكن أن يضاف في إيجابيات ثقافة الأسواق أم هي(حرية) لا يستسيغها المجتمع السوداني؟!!