شاهد بالفيديو.. ياسر العطا يقطع بعدم العودة للتفاوض إلا بالالتزام بمخرجات منبر جدة ويقول لعقار "تمام سيادة نائب الرئيس جيشك جاهز"    عقار يشدد على ضرورة توفير إحتياطي البترول والكهرباء    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    ريال مدريد يهزم دورتموند الألماني ويصطاد النجمة 15    (زعيم آسيا يغرد خارج السرب)    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    قنصل السودان بأسوان يقرع جرس بدء امتحانات الشهادة الابتدائية    المريخ يتدرب على اللمسة الواحدة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان    شاهد بالفيديو.. مواطن سوداني ينطق اسم فريقه المفضل بوروسيا درتموند بطريقة مضحكة ويتوقع فوزه على الريال في نهائي الأبطال: (بروت دونتمند لو ما شال الكأس معناها البلد دي انتهت)    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    منظمات دولية تحذر من تفشي المجاعة في السودان    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    صلاح ينضم لمنتخب مصر تحت قيادة التوأمين    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد.. زوج نجمة السوشيال ميديا أمنية شهلي يتغزل فيها بلقطة من داخل الطائرة: (بريده براها ترتاح روحى كل ما أطراها ست البيت)    بعد الإدانة التاريخية.. هل يستطيع ترامب العفو عن نفسه إذا نجح بالانتخابات؟    أسعار الأدوية في مصر.. المصنعون يطلبون زيادة عاجلة ل700 صنف    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يقدمون فواصل من الرقص "الفاضح" خلال حفل أحيته مطربة سودانية داخل إحدى الشقق ومتابعون: (خجلنا ليكم والله ليها حق الحرب تجينا وما تنتهي)    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    في بورتسودان هذه الأيام أطلت ظاهرة استئجار الشقق بواسطة الشركات!    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    السعودية "تختبر" اهتمام العالم باقتصادها بطرح أسهم في أرامكو    ميتروفيتش والحظ يهزمان رونالدو مجددا    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحول من الثورة (الفتح) إلى الدولة (الحجرات)
نشر في آخر لحظة يوم 26 - 07 - 2013

اجتاحت العالم العربي في الاعوام السابقة ثورات اطاحت بالانظمة في كل من اليمن وتونس ومصر وليبيا وما زالت الثورة مشتعلة في سوريا . ولا زالت البلدان التي انتصرت فيها الثورات تعاني من التفلت الامني وعدم الاستقرار ، هذا المقال يحاول سبر آيات القرآن والغوص فيه لنرى كيف عالج القرآن هذا التحول الخطير من الثورة الى الدولة بصورة سلسة ومنهج بسيط يضع لبنات الاستقرار السياسي لكل دولة شهدت ثورة.
فتح مكة يمثل حقبة فارقة في مسيرة الدعوة والاصلاح وتطبيق المنهج الالهي الذي قاده الرسول ( ص) وصحابته بتوجيه مباشر من الوحي. وبفتح مكة انتهت سلطة قريش وازيل سلطانها من جزيرة العرب . وهذا الفتح يعادله في العصر الحديث الاطاحة بالانظمة الظالمة التي ظلت جاثمة ردحا من الزمن على الشعوب العربية . وبعيد نهاية قريش ومحو سلطانها ، أي بعيد فتح مكة نزلت سورة الفتح على الرسول (ص) لتمثل نهاية حقبة الثورة.
وقد فرح النبي (ص) كثيرا عندما نزلت عليه سورة الفتح ، فقد روى الامام البخاري في صحيحه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا.) . وسر فرح رسول الله (ص) يكمن في نجاحه وصحابته في الشوط الاول من الدعوة والسير بها بحسب ما يريد ربه وقد انتهى هذا لشوط بفتح مكة وازالة سلطة قريش وايلولة السلطة السياسية في جزيرة العرب الى النبي وصحابته. لذا نجد سورة الفتح مليئة بآيات الرضا من الله عن النبي وصحابته بدءا من الآيات الاولى والتي مجدت قائد مسيرة الثورة والتغيير يقول تعالى :( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3). وحتى آيات ختام السورة والتي مجدت صحابته الذين كانوا معه في مسيرة الثورة يقول تعالى :( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29). ويتخلل بدء السورة وختامها هبات ومنح عظيمة من الله على المؤمنين كدليل على رضا الله عنهم ، بعضها اقتصادي كقوله تعالى:( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) . وبعضها عسكري كقوله تعالى : ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) وقوله : تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).
بعد هذا السرد عليه يكون منطقيا ان السورة التي تاتي بعد سورة الفتح التي مثلت نهاية سلطان قريش وأيلولة السلطة في جزيرة العرب للنبي وصحابته ، تكون هي السورة التي توضح معالم حقبة ما بعد الثورة والموجهات الربانية للحقبة الجديدة ، تلك هي سورة الحجرات.
وإذا كانت سورة الفتح تعني وصول المؤمنين ومسيرة جهادهم بقيادة رسول الله (() إلى غاياتهم بهدم سلطان الباطل وكسر شوكة العدو، ودخول مكة عنوة فاتحين، فإن هذا لا يعني نهاية مسيرة الجهاد والقاء عصى المدافعة لا أبداً، فهدم الباطل وكسر شوكة العدو مهمة جداً لبدء مرحلة أخرى هي الأخطر، ألا وهي مرحلة البناء وتشييد النموذج المثالي الذي كانت الرسالة تبشر به منذ انطلاق مراحل دعوتها الأولى . جاءت سورة الحجرات لتضع القواعد الاساسية التي تهئ الجو لتقديم النموذج الاسلامي في كل شئ.
وجاء في العلوم السياسية المعاصرة أن نجاح أي دولة مدنية وشرط استمرارها ودوامها يرتكز على عامل أساسي واحد هو تحقيق الإستقرار السياسي. والاستقرار السياسي هو الهدف الثمين الذي تهدف سورة الحجرات لتحقيقه . وسورة الحجرات جاءت لتوضح للناس أن الاستقرار السياسي لا يتحقق الا بمبادئ السلوك الرشيد حكاما ومحكومين. وهذا السلوك المؤدي الى الاستقرار السياسي تناثرت تفاصيله في السورة من مبتدئها وحتى منتهاها. وبشرح اسس ذلك السلوك الرشيد يتحقق الاستقرار السياسي المنشود وبالتالي تتهيأ الأرضية الصلبة والقوية لبناء الدولة الحضارية المدنية العلمية التي بشر بها الإسلام.
والحاجة الى التغيير في سلوك المؤمنين جاء بسبب انهيار سلطة قريش ، لأن سلوك المؤمنين قبل انهيار قريش كان طابعه الحذر والخوف وبمعنى اليوم فقد كانت حالة الطوارئ معلنة وسط المؤمنين لأن قريش بامكانها الهجوم على المدينة في أي وقت شاءت . ولكن بعد زوال خطر قريش وخضوع جزيرة العرب لسلطان المؤمنين فذلك التغيير الكبير يستدعي تغييرا في السلوك ، فالسلوك أيام الثورة يختلف تماما عن مثله في أيام الدولة.
أسس الحكم الرشيد في سورة الحجرات:
الحجرات المذكورة في الآية هي حجرات بيت رسول الله (() الكبير والتي كان يمارس منها أحياناً شئون الدعوة وإدارة الحكم، بلقاء أصحاب المسائل والوفود القادمة إليه .
والحجرات مفردها حجرة، والحجر لغة كما جاء في معجم مقاييس اللغة :(الحاء والجيم والراء أصل واحد مطَّرد، وهو المنْع والإحاطة على الشيء.)1 فمن ذلك الحجر لصلابته وقوته ومن ذلك الحجرة المعروفة فهي تحمي وتحفظ ما بداخلها.
فمن دلالة حجر بمعنى القوة والصلابة والاحاطة على الشيء فإن سورة الحجرات تضع من القيم والمبادئ والسلوك الرشيد ما يجعل دولة الإسلام التي جاهد من أجل اقامتها الرسول وصحابته قوية وصلبة عصية على الانهيار قائمة إلى يوم القيامة ما لم تهجر تلك القيم.
والحجرات في مفهوم اليوم كالمكاتب ، والمكاتب لا شك أنها رمز للدولة المدنية الحضرية فكما كان الرسول (() يدير منها شئون الدولة فكذلك هي اليوم .
أولا : وحدة المنهج والقيادة وخطورة تجاوزهما:
يقول تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) .
إن أول سلوك تريد أن ترسخه سورة الحجرات لبناء الدولة المدنية من بعد نهاية عهد الثورة، هو عدم تجاوز المنهج والقيادة . فقوله تعالى (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فالفعل (قدم ) لغة يدلُّ على سَبْق والسبق يعني التجاوز ، فالآية تحث المؤمنين على عدم تجاوز المنهج (بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ) والمنهج المقصود هو القرآن . وكذلك عدم تجاوز القيادة (وَرَسُولِهِ) ورسول الله (ص) باق بيننا اليوم بسنته. فتجاوز المنهج هو الضلال بعينه ، وتجاوز القيادة منهيّ عنه سواء كان بالقول كالتصريحات والتحدث باسم القيادة دون تفويض منها فالله سميع، أو بالفعل كاصدار القرارات دون علم القيادة فالله عليم . فكل ذلك ممنوع لأنه يؤدي الى انفراط أركان الدولة وهدم استقرارها.
والقيادة الواجب احترامها هنا هي تلك التي اختارها المؤمنون لتكون قائدة لهم، لا تلك التي لم يوافق عليها جمهور المؤمنين . وتجاوز هذه القيادة قولاً وعملاً إن لم يحسم فقد يؤدي إلى نتائج خطيرة، كالمؤامرات والدسائس والتي تصل إلى التخطيط للاطاحة والانقلاب على القيادة التي تراضى عليها المؤمنون، مما يؤدي إلى انعدام الإستقرار السياسي ونشوب الحروب الاهلية والفساد في الأرض .
وعليه يصبح تجاوز مبادئ الرسالة والقيادة من الحدود الصارمة التي ينبغي أن تراعى في كل مستويات المسئولية، والإلتزام بهذه الحدود يحفظ للقيادة هيبتها ورمزيتها مما يؤدي إلى الاستقرار السياسي الذي يعتبر أساس بقاء الدولة واستمراريتها.
قوله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3).
هذه الآية تنبه إلى بعض المزالق التي يمكن أن يقع فيها المؤمنون وستتطور فيما بعد، إن لم تحسم، مما يؤدي إلى تجاوز للقيادة . أمر الله المؤمنين في هذه الآية بغض أصواتهم وخفضها عند الحديث في حضرة قائدهم رسول الله (() احتراماً له لأنه الرسول ولأنه الرئيس والقائد. فخفض الصوت كما يحفظ للقيادة هيبتها، يجبر القائد على احترام من هم تحت أمرته وفاءً بوفاء مما يدعم الانسجام بين القيادات وبالتالي يدعم الإستقرار السياسي. ورفع الاصوات يأتي أيضاً بمعنى علو الصيت والشهرة من بعض القيادات الوسيطة فعليه ينبغي ألا تقودهم تلك الشهرة إلى التعالي على القائد وتجاوزه. ويدعم هذا قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ). لأن الجهر لغة كما ورد في معجم المقاييس: (إعلان الشَّيء وكَشْفُه وعُلُوّه. يقال جَهَرْتُ بالكلام أعلنتُ به.)2. والجهر بالقول نوع من الجرأة ولا يجرؤ على الجهر بالقول إلا من يستند على حيثيات قوية كأن يكون غنياً أو ذا شرف ونسب أو حامل علم أو له سبق في النضال، أو يمتلك معلومات لا يملكها غيره . وصاحب تلكم المميزات إن لم يتدارك نفسه، فقد تدفعه مميزاته تلك إلى الجهر بالقول أمام القيادة في الاجتماعات حباً للظهور والعلو والتقرب من القيادة. لذا منع القرآن هذا السلوك لأنه أحياناً قد ينطوي على أغراض غير شريفة.
وتكثر مثل هذه الأمثلة حين الاستقرار بعد تحقيق الثوار أو الفاتحين هدفهم وذلك بالإطاحة بالنظام القديم، فيدعى هذا بأنه كان من المقاتلين وذاك بأنه كان من المنفقين والآخر بأنه من المؤسسين، وبعضهم قد خسر كذا وكذا بسبب النضال، كل يضخم دوره أيام الثورة ويريد أن يكافأ على ذلك، وهذا كله هدفه الطمع السياسي وطلب المال والجاه ، وإن لم تستجاب مطالبه فسيسعى إلى تجاوز القيادة والتآمر عليها وسيؤدي ذلك، إن لم يحسم، إلى زعزعة الإستقرار السياسي. وختام الآية بقوله تعالى : ( أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) يدل على ذلك، فالحبط كما جاء في معجم مقاييس اللغة: ( أن تأكل الدَّابةُ حَتَّى تُنْفَخ لذلك بطنُها.) 3. فالدابة المنفوخة تظهر أولاً بغير حجمها الطبيعي، وتموت من ثم بسبب الحبط. وكذلك الجاهر بالقول الطالب للعلو المتجاوز للقيادة فهو إنما يظهر بغير حجمه الطبيعي ويفعل ذلك إما طمعاً في المكافأة أو رغبة في تجاوز القيادة طلبا لوظيف عليا .فهذا الصنيع محبط لكل الاعمال والجهود التي بذلت أيام الثورة ومجاهدة الباطل.
قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5).
وهذه الآية موصولة بسابقتها، فالذي لم يستطع تحقيق مآربه الشخصية بعلو صوته وإبراز بطولاته يلجأ إلى طريق آخر الا وهو استخدام الطرق الملتوية والالتفاف على اللوائح والنظم المعمول بها للوصول للقيادة لتحقيق أهدافه.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات، وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب، فقال: { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
} ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك، فقال عزّ وجلّ: { وَلَوْ
أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة.) . فكما ذمت الآية ذلك السلوك البدوي في التعامل مع القيادة، تكون قد رسخت لمبدأ حضاري في غاية الأهمية، فأيام الثورة يكون من الصعب ضبط سلوك الناس فتظهر علامات التفلت هنا وهناك، ولكن هذا التفلت غير مقبول أصلاً عند نهاية الثورة وبداية عملية البناء الحضاري للدولة . فالسلوك الحضاري الذي تهدف له الآية هو تعليم الناس والقيادات إحترام الدساتير والقوانين واللوائح التي تنظم العمل في الدولة . فلا ينبغي لأي مسؤول من الوزراء أو غيرهم من المواطنين مهما كانت مكانته إن أراد أن يخاطب قائد الدولة، أن يخرق اللوائح المتفق عليها ليصل إلى القائد الأعلى بطريق ملتو من وراء المكاتب ليقضي حاجته (ينادونك من وراء الحجرات) . كأن يقوم مثلاً نائب الوزير بمقابلة الرئيس دون علم وزيره المباشر أو أن يقوم موظف صغير بمقابلة رئيسه متخطياً رئيسه المباشر ! فمثل هذه التفلتات تثير الحقد والكراهية والبغضاء بين المسؤولين فالخير كل الخير للموظف أو المسؤول إن أراد أن يقضي حاجة له ان يلتزم بالضوابط الموضوعة لذلك دون الالتفاف عليها. وختام الآية يدعم هذا التفسير اذ وصف الله عزّ وجلّ الذين يسلكون هذا السلوك بعدم العقل وهو الذي يعني التفلت وعدم الانضباط.
ثانيا : كيفية التعامل مع المعلومات :
قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8). جاء في تفسير إبن عاشور عن سبب نزول هذه الآية :
(أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه، أو لمّا استبطأُوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعَليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك (على اختلاف الروايات) خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعاً إلى المدينة.) . وأخبر رسول الله (().
وكتب التفسير تذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه الخبر لم يزد على قوله له التبيّن من الله والعجلة من الشيطان . وإبن عاشور ولتبرئة الوليد بن عقبة من صفة الفسق التي جاءت بها الآية، قال إن الفاسق كان شخص آخر ذكر للوليد أن بني المصطلق كانوا يحملون السلاح.
وعلى اختلاف الروايات فإن هذه الآية تريد تنبيه المؤمنين قيادة وقاعدة إلى خطورة الدور الذي يمكن أن تلعبه المعلومات المفبركة والمغلوطة .فعند استقرار الدولة يكثر تجار المعلومات الذين فيهم الراشدون العاقلون، وفيهم من يبحثون عن الشهرة والمصالح الذين لا يبالون في سبيل تحقيق أهدافهم أن تنهار الدولة أو تستقر . واستخدام الآية لكلمة فاسق تدل على أن الآية تريد أولاً أن تضع حداً للسلوك العشوائي في إرسال المعلومات لأن الفسق في اللغة كما جاء في معجم مقاييس اللغة، يعني ( الخروج عن الطَّاعة. تقول العرب: فَسقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرها: إذا خرجَتْ)4. وعليه، فعلى كل مؤمن يمتلك معلومة مهمة عليه أن يتبع النظم المعروفة في إرسال المعلومات .
والآية تشرّع لقادة الدولة والناس أجمعين إن كانت لديهم أنباء عاجلة ألا يستعجلوا إرسالها لمتخذي القرار قبل أن يرسلوها إلى الجهات المختصة بالمعلومات كي تفحصها وتدققها وتحللها، فإن صحت أرسلت لمتخذي القرار وإن لم تكن كذلك أهملت وتركت. ورئاسة الدولة ان لم تتخذ هذا الإجراء وقبلت هذه الانباء دون تثبت منها واتخذت بموجبها قرارت متعجلة ، فسوف يكون لهذه القرارات آثاراً خطيرة على الناس مما يثير الضغائن والفتن والتمرد وبالتالي عدم الاستقرار السياسي. وقد وصف الله عزّ وجلّ السالكين لهذه الاساليب بأن فيهم بقية من آثار الجاهلية كالكفر والفسوق والعصيان!! وأن من يضبطون أنفسهم ويلتزمون بمعايير التثبت فأولئك هم الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وهم الراشدون العاقلون. أو كما يقول إبن عاشور: (إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصيان فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه. وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر ومن آثار الجاهلية مِن آثار الكفر والفسوق والعصيان.).والعياذ بالله.
قوله تعالى:(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) .
هذه الآية بدأت بحرف العطف الواو مما يعني أنها معطوفة على ما قبلها. والمعنى الذي يفيده العطف أن السلوك المنهي عنه في الآية السابقة وهو عدم التبيّن والتثبت في الانباء التي يحملها تجار المعلومات، فإن لم يتم التحري عن تلك الأنباء وصدرت بناء عليها قرارات مرتجلة أدت لظلم آخرين، فإن آثار تلك القرارات سوف تتفاقم مما يفضي إلى القتال بين المؤمنين انفسهم . فالظلم نتائجه قاسية ووخيمة. والآية لم تنف عن الطائفتين المتقاتلتين صفة الإيمان، مما يعني ان الخلاف بين المؤمنين قد يصل إلى قتال بعضهم بعضا، وهذا مدعاة إلى الأمل في التصافي مرة أخرى لأنهم مؤمنين وإن قاتل بعضهم بعضاً . وفي الآية كذلك عظة وعبرة لمسلمي اليوم، فبعض منهم والعياذ بالله، يكفّر بعضهم بعضا حتى في شأن الخلافات السياسية فكيف سيكون حالهم اذا وصل خلافهم إلى مرحلة القتال!.
كررت الآيتان الصلح ثلاث مرات، وذكرت العدل وذكرت القسط ونسبت كل تلك الأفعال إلى جماعة المؤمنين كلهم ودلالة ذلك كله، الحرص على وقف الاقتتال بين المؤمنين وعلى المؤمنين كلهم حكاماً ومحكومين ألا يهدأ لهم بال وحتى يجدوا طريقاً للصلح وقف القتال ، وان دعا الامر لقتال الفئة التي لا ترضى بالصلح، فالمؤمنون وإن تقاتلوا فهم اخوة يجمع بينهم الإسلام . فقتال المؤمنين بعضهم بعضا مضر ومهدد للاستقرار السياسي ومفتت لعضد الأمة ويعرض المشروع برمته للإنهيار.
ثالثا : احترام التنوع الوظيفي:
قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11).
تحذر هذه الآية المؤمنين قيادة وقاعدة من سلوك ومنزلق آخر له خطورته على الاستقرار السياسي، وأن تجنبه يرسخ لمفاهيم غاية في الأهمية لضمان إستقرار الدولة والمجتمع . ألا وهو احترام المؤمنين بعضهم بعضاً بغض النظر عن فوارقهم العرقية أو العلمية أو المهنية أو اللغوية مما ينعكس على احترام مؤسسات الدولة . والقوم في اللغة المجموعة من الناس التي يربط بينها رابط مشترك سواء أن كان هذا الرابط عرقياً كالقبائل والعشائر أو لغوياً أو علمياً كالأطباء أو المهندسين أو رابطاً مهنياً كالدبلوماسيين و ضباط الجيش و الأمن وغير ذلك من الاختلافات والفوارق الأخرى . فلا ينبغي ان يسخر الأبيض من الأسود أو الأطباء من الجنود أو الأطباء من الصيادلة أو من الممرضين أو الضباط من الجنود أو الوزراء من نوابهم أو أساتذة الجامعات من معلمي المراحل الإبتدائية أو أن يسخر الناس من المعلمين أو من العمال واصحاب المهن التي لا تتطلب تعليماً هاما كل ذلك منهي عنه وممنوع. فلكل صاحب مهنة أداء ودور وواجب يؤديه لا غنى للمجتمع عنه. وإذا سخر الناس من بعضهم بعضاً فالسخرية ستنتقل إلى المهنة وبالتالي إلى المؤسسة فسيتحاشى الناس امتهان تلك المهن فيختل توازن المجتمع وتظهر نقاط الضعف فيه . ولربما كان هؤلاء المسخور منهم خيرا من أولئك الساخرين عند الله بما اخلصوا في أعمالهم. وخصصت الآية النساء بالذكر لان السخرية أكثر تفشياً بينهن. ولعل أسوأ مثال نضربه لنتائج سخرية الأقوام بعضهم من بعض، الصراع المرير بين العسكريين والمدنيين في العالم العربي والإسلامي . فكل ما قام نظام مدني للحكم في بلدان المسلمين انقض عليه العسكريون في الدولة ذاتها وازالوه من الوجود، وكلما تطاول امد العسكريين أيضاً في الحكم يحيك لهم المدنيون الدسائس والمؤامرات انتقاماً منهم حتى يطيحوا به ! وللأسف فإن هذا الصراع القومي طال حتى الإسلاميين منهم ! وهكذا تضيع جهود البناء، وتزهق الأرواح، وتذهب عقود من الزمن في الصراع الذي لا طائل منه، ونتيجة كل ذلك تخلف الأمة عن التقدم وانحطاطها .
نهت الآية كذلك المؤمنين عن اللمز وهو يكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرِف منه المواجه به أنه يذمّ أو يتوعد، أو ينتقص باحتمالات كثيرة، كما نهت عن التنابز بالالقاب السيئة. والعبرة وراء النهي عن السخرية و اللمز والتنابز هو ان السالك لذلك السلوك انما أراد أن يحط من قدر الآخر ووزنه خاصة في مؤسسات الدولة وبين الموظفين القياديين. وذلك السلوك مدعاة لاغتيال الشخصيات خاصة القيادية منها ومدعاة لانتشار الشحناء والبغضاء والحقد والمكر السيئ مما يؤدي إلى انصراف الموظفين عن العمل و يؤثر في خاتمة المطاف على أداء المؤسسة في القطاع العام أو الخاص وبالتالي يقل انتاجها . وفي المجتمع خاصة اذا كان المستهدف المسؤولين سوف يعرضهم ذلك للاصابة بالاحباط وبالتالي يقل الأداء والإنتاج، ولكل ذلك آثار خطيرة ونتائج وخيمة على الناس الذين يقودهم. ومن يفعل ذلك فبئس أن يوصف بالفسوق بعد الايمان، ومن لم يتب من هذا السلوك فقد ظلم نفسه لأن هؤلاء المظلومين سيأتون يوم القيامة يقتصون منه فيأخذون من حسناته وإن فنيت حسناته، اخذت من سيئاتهم وطُرحت عليه.
رابعا : سوء الظن بالمؤمنين :
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) .
الآيات السابقة كانت تتحدث عن المعاملات السيئة الواضحة التي تؤثر على أداء القيادات ومؤسسات الدولة، وتؤثر على العلاقة بين الدولة والمجتمع. أما هذه الآية فتتناول المعاملات الخفية التي تترك ذات الاثر. ففي هذه الآية نهى الله عز وجل المؤمنين وهم مقبلون على تأسيس دولتهم، نهاهم عن مرض خطير جداً ألا وهو الظن الآثم باخوانهم، والظن في اللغة هو الشك حسناً أو قبيحاً و المستهدف في الآية الظن القبيح. والظن هو الوهم وكل ما هو ضد الحقيقة، والآية تدعو المؤمنين لاجتناب الظن بمعنى عدم الاخذ بالمعلومات الظنية للحكم على إخوانهم لأنها مبنية على وهم وليس على حقيقة . وتتبين خطورة ذلك في الدولة، وخاصة حين انتصار الثورة وبدء مرحلة البناء للدولة المدنية وأثناء مسيرة تطورها، فعند الانتصار تتدفق الغنائم والأموال والوظائف والمناصب العليا، فيتعرض المؤمنون لفتنة السلطة والثروة لأجل الفوز بالمناصب، ويسعى ضعاف النفوس لبث المعلومات الوهمية حول منافسيهم لاقصائهم عن المنافسة، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فلكي يهزم منافسه لينفرد بالوظيفة، يضطر للتجسس على أخيه وتتبع مواقع ضعفه ونبش سيئات تاريخه ثم يغتابه بها، بمعنى انه يشيعها بين الناس حتى تصبح رأياً عاماً وتذهب من بعد إلى متخذي القرار في غيابه فيصدرون القرارات ضده بابعاده عن الوظيفة أو المنصب. فإذا ما إتخذ القائد قراراً استند على معلومات ظنية وهمية غير حقيقية، فستحل الكارثة حينئذ، وسيكون أثرها سيئ للغاية على المؤمنين، وقد تذهب الظنون بالشخص المظلوم إلى التشكيك في صدق القيادة وتوجهها، ومن ثم العمل ضدها والتحريض عليها لابعادها، وقد يجد هذا المظلوم أعواناً معه بالحق أو بالباطل وقد يصل بهم الحال إلى التمرد والخروج على وحدة الجماعة ونظام الدولة.
لذلك دعا الله المؤمنين لاجتناب الظن السيئ بإخوانهم والتجسس عليهم وغيبتهم فمن يفعل ذلك كمن يأكل لحم أخيه ميتاً، ومن يحب ذلك؟ ومن يقترف تلك الآثام فهو قطعاً ليس من المتقين، ومن تاب فإن الله تواب رحيم.
خامسا : احترام التنوع العرقي :
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13).
بعد أن حددت الآيات السابقة الحدود الدنيا التي تؤسس لمجتمع ودولة سليمين فإن هذه الآية تؤسس لمبدأ انساني في غاية الأهمية ألا وهو وحدة أصل البشر وأن التنوع العرقي والثقافي الموجود انما جعله الله للتعارف وتبادل المنافع . فبعد انتصار الثورة يدخل الناس في دين الله أفواجاً باختلافهم أجناسهم وألوانهم، فعلى القادة من المؤمنين المنتصرين أن يعوا أن أصل الناس واحد فهم من ذكر وانثى وإن هذا الاختلاف الذي يرون إنما جعله الله لأجل التعارف وتبادل المنافع بينهم. فلا ينبغي للقيادة أن توظف ذلك التنوع وتستغله لضرب القبائل بعضها ببعض كما كان في العصر الجاهلي. ويتفرع عن ذلك أن على القادة ألا يفرقوا بين الناس حين توزيع أعباء المسؤولية و التوظيف بسبب لونهم أو لغتهم أو ثقافتهم، وإذا كان الله يكرم المتقين من الناس ويقربهم إليه، فعلى قادة المؤمنين أن يأخذوا بهذه القاعدة الذهبية فيقربوا ويوظفوا ويولوا أكثر الناس تقوى لله . والتقوى هنا ليس بمعناها التقليدي المتعارف عليه اليوم والذي حصره الناس في العبادات فقط، ولكن الشخص التقي المتقدم للمنصب هو الذي يتصف بصفتين لا ثالث لهما وهما أن يكون أكثر المتقدمين خبرة بشئون الجهة التي يتولى أمرها وأكثرهم خبرة بكتاب الله في معرفة حدوده فيما يتولى.
سادسا : السلوك تجاه المحايدين:
قوله تعالى: ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18).
هذه الآيات جاءت لتذم سلوك الأعراب وليس جنسهم . والأعراب هم سكان البادية أي المناطق الخلوية البعيدة من المدن . وهم غالباً بعيدون عن الأحداث الكبرى ومشغولون بانفسهم ومعايشهم سواء كانت رعياً أم غيره . وسلوك الأعراب المذموم هنا هو اتخاذ موقف الحياد من القضايا والانتظار حتى ظهور وانتصار أحد الطرفين. وعليه فكل من يسلك هذا السلوك فإن الآيات تعنيه. والأعراب صنفان صنف مؤمن بالله وآخر أشد كفراً ونفاقاً، والأخيرون هم الذين يميلون حين إشتداد الصراع لمن يغلب لتأمين مصالحهم.
فبعد أن سقطت سلطة قريش وتوطد الأمر في جزيرة العرب للرسول (() وصحابته، وفدت قبائل العرب إلى رسول الله ليعلنوا إسلامهم، وكان من بين الوفود القادمة وفد بنو أسد وهم من الاعراب، لم يفدوا لرسول الله (() ليؤمنوا وإنما كان غرضهم أن يصرف عليهم من الصدقات بعد أن أصابهم القحط، فنزلت فيهم هذه الآيات.
والآية في عصرنا هذا تنطبق على المجموعات المحايدة ، أي اولئك الذين يسلكون سلوكاً مستقلاً حين قيام الثورات ، و يقفون موقف المتفرج المراقب للأحداث من بعيد، لا يشاركون في الأمر لا بالرأي ولا بالفعل في انتظار معرفة من يؤول إليه الأمر(بادون في الرآي) ,ففور استقرار الأمور وذهاب فورة الاحداث وزوال الخطر، يطلون برؤوسهم ويمنون بايمانهم للقادة المنتصرين بأنهم إنما كانوا في الأصل مؤمنون بالثورة ومبادئها ولكن منعهم هذا وذاك، يقولون كل ذلك طمعاً في الفوز بالغنائم والمناصب .
توجيهات القرآن للتعامل مع هؤلاء المحايدين هي الحذر، لا يرفضون طالما هم أقبلوا إلى المؤمنين ولكن يجب اختبارهم عن طريق تكليفهم بمهام ليعلم مدى صدق إيمانهم وطاعتهم كما بينت الآيات. فإن وفوا فمن المؤمنين وإلا فإن ايمانهم ذاك لم يكن إلا استسلاماً وطمعاً في المغنم ومثل هذا الصنف لا يرجى منه خير.
الخلاصة:
هذه هي التوجيهات الربانية والأسس السليمة التي بها تبنى الدولة الإسلامية . فالمعاملات داخل مؤسسات الدولة الإسلامية لا تبنى إلا على هذه القيم و الاخلاق المحكمة . ومن فرط فيها فمصير الدولة إلى التصدع والتشقق واندلاع الحروب الاهلية وقتال المؤمنين بعضهم بعضاً، وقد رأينا ذلك في الحرب الأفغانية السوفيتية، فعندما هزم الأفغان الروس وطردوهم من بلادهم في ملاحم جهادية كبيرة، ولما لم ينتبهوا إلى الهدى القرآني في سورة الحجرات بعد أن تحققت أهدافهم، قاتل بعضهم بعضاً فذهبت ريحهم وتفرقوا أيدي سبأ. كما أن هذه القيم الأخلاقية الرفيعة الواردة في سورة الحجرات، هي الركن الأساسي لنجاح العمل في مؤسسات الدولة، فهي أيضاً تشكل أساس النجاح لمؤسسات القطاع الخاص وغني عن القول أنه إذا نجحت المؤسسة إدارياً فإنها قطعاً ستنجح في تحقيق اهدافها والله اعلم.
1 . معجم مقاييس اللغة، مرجع سابق،مادة ح،ج،ر.
2 . معجم مقاييس اللغة، مرجع سابق، مادة ج،ه،ر.
3 . معجم مقاييس اللغة، مرجع سابق، مادة، ح،ب،ط.
4 . معجم مقاييس اللغة، مرجع سابق،مادة، ف،س،ق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.