تأخر هذا المقال حتى انقضى شهر اكتوبر.. فعذراً للقاريء أنها مشغوليات الزمان التي اصابت كل انسان.. في كل زمان ومكان.. بتركيز على أهل السودان في اكتوبر يعود الناس إلى الظروف السياسية التي سبقت اندلاع ثورة اكتوبر 21.. ولكني هذا العام حاولت أن أخرج من رحم العناء.. مندفعاً نحو راحة الذكريات التي ينادي بعضها بعضاً بلا ترتيب زمني أو تخطيط.. ولعله نوع من الهروب.. ثورة اكتوبر قامت من اجل تقويض حكم الرئيس إبراهيم عبود العسكري بل أول نظام عسكري بحكم السودان.. فمن هو الفريق إبراهيم عبود؟! وكيف جاءته السلطة؟!قال الشاعر في مدح الخليفة يوم عيد الفطر ما فيه: «ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما في وسعه لسعى اليك المنبر» والرئيس عبود هو من سعى إليه الحكم. حينما لجأ الأميرلاي عبد الله خليل.. رئيس الوزراء من قبل حزب الأمة.. إثر خلافه مع الأحزاب.. وخوفاً من أن ينتزع منه الحكم إلى تسليمه للرئيس عبود.. قائد الجيش حينها- في عقر داره- كما جاء في مذكرات المرحوم عبد الرحمن مختار كان له الأثر الكبير.. في انجاح ثورة اكتوبر عندما اصدر عدداً من جريدة الصحافة- رغم الحظر- أوقد به نار الثورة معرضاً نفسه لاحتمال البطش والتنكيل.. ويذكر في هذا المجال أن الاستاذ أحمد سليمان المحامي «كان شيوعياً» عندما خرج من المعتقل بعد نجاح الثورة.. وشاهد عبد الرحمن مختار صاح به «يا عبد الرحمن مختار.. يا أب ضراع.. والله العملتو انت.. كلنا ما عملناه».. ولكن أحمد سليمان انقلب عليه بعدها عندما طلب منه ان يطبع صحيفة «الميدان» بمطابع الصحافة فرفض عبد الرحمن ذلك.. وذكر عبد الرحمن مختار يذكرني باخيه حسن مختار زميلي في الدراسة الثانوية.. الناقد الرياضي.. والذي تولى الاشراف على الصحافة بعده..كنت أحب الرئيس عبود لشخصه- وان لم التق به ابداً.. لانه كان إلى الأب أقرب منه إلى الحاكم.. نقرأ في صوره- على جبينه الطيبة.. والتواضع.. والعطف والوالديه.. مما جعل اشخاصاً آخرين من داخل يبرزون.. ويتسيدون الموقف.. والرئيس عبود من مواليد 1899 ميلادية في موضع وفي آخر 26/10/1900م بمنطقة محمد قول بساحل البحر الأحمر حيث كان والده موظف جمارك.. تسلم الرئيس عبود الحكم في 17/18 نوفمبر 1958م وظل رئيساً لجمهورية السودان ومجلس الوزراء حتى 30 أكتوبر 1964م.. يقول العم «قوقل» ان اسم الولادة ابراهيم عبود شيخ العرب.. ولد بشرق السودان «من قبيلة الشايقية».. تخرج في كلية غردون التذكارية «جامعة الخرطوم الآن» التي تغنى بها شعب السودان مفاخراً ببسالتها. وتنقل في المناصب حتى ترقى إلى اميرلاي عام 1951م فنائب القائد العام 1954م .. ولم يكن الرئيس عبود أول قائد للجيش السوداني.. بل كان أول قائد هو ابن خاله الفريق أحمد محمد الجعلي.. وكما تسلم الرئيس عبود الحكم بسهولة عام 1958م تنازل عنه عام 1964م استجابة لثورة الشارع واستشهاد بعض المواطنين.. ونزولاً لضغط جبهة الهيئات.. فقط بضمان عدم مساءلة طاقم حكمه.. وكانت حكومته تسمى «حكومة الجنرالات».. لانها تتكون من كبار قادة الجيش «منضماً اليهم مولانا محمد احمد أبو رنات وزيراً للعدل».. ولم تخلُ فترة حكمهم من انقلابات عليهم من قبل الضباط الآخرين.. على رأسها «انقلاب اولاد شنان»- وعلى رأسه اللواء عبد الرحيم محمد خير شنان.. والد زميلي بمدرسة بربر الاميرية محمد الذي كان ضابطاً صغيراً لم يشرك في الحركة التي كان ضمنها صديقي الحبيب وزميلي بمدرسة بربر عليه الرحمة ايضاً.. وجاري بالصافية عبد الحليم شنان عليه الرحمة واخويه عبد السلام وعبد الحفيظ والأميرالاي محيي الدين عبد الله.. وعقب فشل حركتهم زج بهم في السجن.. وحوكموا محاكمات وصل بعضها للاعدام.. ولكنها عندما رفعت جمع من الطالبات في المكتب وهي تبكي فرحاً.. وطلبت أن اسمح لها بانزال صورة الرئيس عبود المعلقة على جدار المكتب لتفش فيها غلها.. فرفضت.. لادراكي لما ستقوم به.. وحفاظاً على اسس التربية.. وازاء اصرارها الهستيري.. واستدرارها عطفي.. سمحت لها بانزالها.. دون الاساءة اليها.. والعبث بها.. واحتفلنا في المدرسة بالافراج عن والدها وأعمامها.. وذهبت معها ولفيف من صديقاتها إلى شندي وقضينا يوماً بدار اللواء عبد الرحيم شنان.. معه وإخوانه- عليهم الرحمة- وابتهج السودان كله.. ورُددت أجمل الاناشيد والملاحم الرائعة للمناسبة.. ولكن عاد الناس يوماً ليهتفوا عندما رأوا الرئيس عبود «ضيعناك يا عبود.. وضعنا معاك يا عبود!!».. ولعل من اهم انجازات عهده.. كوبري شمبات.. والمساكن الشعبية بشمبات.. والمحافظة على اسس الخدمة المدنية.. وثورة التعليم التي قادها اللواء طلعت فريد عندما كان وزيراً للتربية.. فجعل شعاره فتح المدارس في العراءوتحت الاشجار.. وكان نصيبي أن أكون ناظراً لمدرسة البنات الوسطى بكبوشية المبنية بالجالوص.. ومن انجازاتهم العمل على النهضة الصناعية بالسودان في مقابل الاخفاقات التي على رأسها «بيع حلفا القديمة» لمصر ليغمرها مياه السد العالي وترحيل اهلها إلى بيئة أخرى.. مقابل عائد زهيد.. ليس من ضمنه حصة من كهرباء السد.. والقمع الذي بلغ حَدَّ «النفخ». وعندما اذكر الرئيس عبود اذكر هذا الموقف المروي لي عن الاخ السر قدور.. وهو كما يعلم الجميع شاعر وناقد فني.. وممثل.. ومخرج.. ومؤلف مسرحي ضاحب هو وفرقة الاذاعة للتمثيل الرئيس عبود في رحلة للجنوب.. رافقه فيها الرئيس عبد الناصر.. طافت الفرقة ارجاء الجنوب.. وفي نهاية عرضها امام الرئيس عبود.. شاهد الأخ السر الرئيس عبود يشير اليه.. فاعتقد انه يشير لشخص آخر.. ولكنه اومأ اليه ليقدم نحوه.. فلما قدم وارخى رأسه ليستمع اليه.. قال الرئيس «عمل جميل.. بدوكم عليه كم؟ قال السر: خمسة جنيه للواحد.. «بالقديم طبعاً» قال الرئيس: لا انتو تعبتوا.. يدوكم كل واحد خمسين جنيه.. وابلغ السر الفرقة.. التي كادت تطير من الفرح.. فالمبلغ كان اكثر من مجز.. وعند صرف الاستحقاق بالاذاعة.. حسب على اساس خمسة جنيهات.. فاحتجوا وتمسكوا بوعد الرئيس فقيل لهم «الريس بهظر معاكم».. فَصَعَّدُوا الموضوع وتقدموا للواء طلعت فريد وزير الاعلام وقتها بعريضة.. ضمنوها عبارة مسؤول الاذاعة «الريس بهظر معاكم».. فاخذ يقرأ العريضة وعندما بلغ هذه العبارة توقف.. و أخذ قلمه الأحمر.. وكتب في ذيل العريضة «الريس لا يهظر!!».. ولم يكمل العريضة.. بل طلب منهم ارجاعها للاذاعة.. فعنده ان ما يقوله الرئيس.. يُنفذ.. وفعلاً تم الصرف لهم.. «بما قال الرئيس». للرئيس عبود خفضها للسجن.. ومما اذكرهخ عندما نجحت ثورة اكتوبر.. وكنت حينها ناظراً لمدرسة البنات التي كانت الابنة «عزيزة عبد الحفيظ» احدى طالباتها.. جاءتني في عام 1917م والتحق بالمدرسة الحربية وتخرج عام 1918م.. عمل بالاشغال العسكرية بالجيش المصري حتى انسحابه إثر ثورة 1924م.. فانضم لقوة دفاع السودان..