قرأت في إحدى الصحف تشنيعاً على مذيعة إحدى القنوات السودانية لأنها في تقديمتها لحفل تكريم أحد عمالقة الفن الذين توفاهم الله.. قدمت عملاقاً على قيد الحياة واصفة إياه بالفنان(الراحل) ومع أن الفنان إمتص الخطأ بقفشة رائعة مثل روعته .. إلا أن المذيعة وأنا لا أعرفها بعدم متابعتي للقناة لم تسلم من سهام صوبت نحوها.. وفي رأيي أن تلك كانت زلة لسان، وليس جهلاً بمعنى كلمة (راحل) ربما جاءت نتيجة لتأثرها بالمناسبة التي يدور حولها الموضوع وإن كنت أدعو إلى الحرص.. غير أني قرأت نقداً للقناة لتركيزها على الظهور المكثف لتلك المذيعة ولا أريد أن أخوض في هذا الموضوع .. فأنا (خارج الشبكة).. كما يقولون.. ولكن الذي أرجوه أن يرتفع ا لنقاد دائماً إلى قمة البناء.. ويمدوا أيديهم إلى الناشئين والصاعدين سوياً ليرتقوا بهم.. وأؤكد لهم أن الإنسان لا يمكن أن ينسى فضل من دفعه إلى الأمام.. ولو بكلمة تشجيع.. إلا أن يكون معدنه غير طيب. أما عن زلة اللسان.. وزلة القلم أو الذاكرة فيجب أن يعتذر صاحبها عنها.. وكفى.. وقد حدث أن كتبت مرة عن أشخاص من معارفي.. وذكرت أحدهم وكنت أظن أن الله قد توفاه.. إذ أني.. ومنذ ثلاثين عاماً قضيت نصفها في الإغتراب، لم أره.. ولم أسمع عنه شيئاً.. ولكني(قافل) على أنه (رحل).. فكتبت - رحمه الله- وكنت أتحدث مع ابنه قبل يومين من نشر الموضوع بالهاتف مستفسراً عن بعض النقاط عن والده، ولكنه لم يشر أو يلمح إلى وجوده على قيد الحياة.. مما زادني يقيناً أنه غير عائش، وبعد نشر المقال اتصل بي أحد الأخوان ليخبرني أن الرجل مازال على قيد الحياة.. ولكنه في حالة من عدم الادراك منذ سنوات طويلة.. فظللت عدة أيام في حالة من التوتر خشية أن يتصل بي أحد من أهله معاتباً على الأقل لعدم تأكدي من ما كتبته ومررت مرة (بالفيس بوك) على من يذكرني قائلاً (أستاذنا عبد العزيز.. رحمه الله).. قلت آمين وزدت حياً وميتاً.. أستاذ الأجيال المربي المرحوم بإذن الله.. النصري حمزة.. كان رجلاً.. وربما.. زاهداً.. ومرحاً لا تخطئه النكتة.. كان يخرج من منزله بالصافية.. بعد التقاعد وهو يحمل في يده شيئاً من الحمص في قدح صغير.. ويحمل(سبحته) في اليد الأخرى.. ويقف تحت شجرة وارفة كانت تشمخ مكان مسجد الصافية الحالي «يذكر الله تعالى».. وبينما هو واقف مرة مر شاب بسيارته.. ثم توقف وترجل وعاد نحوه محيياً.. ثم قال(أنا مشبه عليك) قال الأستاذ النصري على من قال الشاب: على أستاذي النصري حمزة.. فأجابه الأستاذ.. (النصري دا ما مات من زمان) فهز الشاب رأسه.. والتفت ماشياً فناداه الأستاذ.. ولما عاد قال له: إنت سألتني عن أستاذك.. وأنا أخبرتك بموته.. أما كنت على الأقل تقول(رحمه الله) قال الشاب.. أنت أستاذ النصري وعانقه. ومن طرائف زلات اللسان.. حضرت عرساً في إحدى المدن.. فوجدت العائلة هي التي تحيي الحفل.. الكبار والشباب يتبادلون الغناء.. وكلهم أصواتهم رخيمة ويحفظون الأغاني القديمة.. الحقيبة.. والحديثة لجيل الفنانين السابق.. عجبت للأمر.. فقال لي أحدهم يقال إن جدنا رأى ليلة القدر فأراد أن يقول (أديني الغِنى بكسر الغين فأنبهر وقال.. أديني الغُناء بضم الغين لي جنا الجنى) أما أنا فحكايتي أكبر من ذلك ففي عام 1964م توفيت جدتي لأمي ببربر.. فأرسلت برقية للأخ ا لمبارك إبراهيم بالإذاعة عليه الرحمة.. لإذاعة الخبر وذكرت أنها والدة فلان.. وفلان.. وجدة عبد العزيز جبورة.. ليتأكد المبارك.. فقد ظهر في تلك الأيام عبث في أخبار الوفيات بالإذاعة وتوالت علينا برقيات التعزية.. ولكن واحدة منها أثارت دهشة الأهل وكانت من الأخ المرحوم حسين شكاك قريبي من جهة أبي وكان في منطقة أم روابة.. فقد كانت برقية (ساخنة) لا تتماشى مع فقد جدّة أدّتْ رسالتها.. وبعد أسبوعين قابلني أحد أقربائه.. فأخبرني أنه استلم خطاباً منه كلفه فيه بالإعتذار لي على ما حدث.. قلت جزاه الله خيراً فقد وصلت تعزيته.. فأوضح لي أن التباساً قد حدث.. فهو لم يسمع النشرة من أولها ولكنه سمع الجزء الذي يقول (عبد العزيز جبوره.. ويقام المأتم ببربر) فظن أنك أنت المتوفي.. فأخذه الحزن والأسى.. فأرسل البرقية.. وعندما نقل الخبر لشخص آخر.. وكان قد سمع الخبر كاملاً.. صوبه.. وهو يأسف على ذلك.. ضحكت كثيراً وقلت له.. جزاه الله خيراً.. فقد تأكد لي أن شخصاً على الأقل سيحزن على فقدي بهذه الدرجة. وكنا ونحن صغار إذا أخطأ أحدنا وقال عن شخص حي رحمه الله تقول جداتنا (الله يجيره مالكم دايرين تقتلوه) لارتباط الدعاء في الأذهان بالموتى.. وهنْ لا يعلمن أن الإنسان محتاج إلى رحمة الله حياً وميتاً.