التضارب في السياسات ،والإصرار العنيد على إنفاذ القرارات المعيبة صارت سمة واضحة في كثير من قضايا الشأن العام .فلم يعد مستغربا أن نرى التجاذبات التي تقود إلي بروز الأزمات.والقضية التي نطرقها في هذا التقرير ،مثال واضح على ذلك النوع من التعاطي ،القائم على القرارات الفوقية،التي تثير غضب المتضررين ،وتنذر بخطر داهم إن لم يتم تداركها بحكمة وبعد نظر.... المشهد الأول ظل مشروع الرهد الزراعي واحدا من أهم المشروعات التي قامت بعد مشروع الجزيرة؛إذ يسهم في إنتاج عدد من المحاصيل المهمة ،ويوفر للمزارعين عيشا كريما من ريع بيع تلك المحاصيل.لكن توالي السنوات ،وزيادة الرقعة الزراعية ،إضافة لمشاكل الاطماء وتعطل الطلمبات ،أدت لظهور بعض التحديات في ما يتصل بانسياب مياه الري الحواشات .وهي مشكلة استمرت في التفاقم دون معالجات جذرية ،في ظل حديث متواتر عن قيام مشروع موازي في مساحة 300 ألف فدان ،بالاستفادة من فائض المياه الذي توفره تعلية خزان الرصيرص.بيد أن المفاجأة كانت قيام ولاية سنار بالاتفاق مع بعض المستثمرين لإنشاء مشروع البحيرة الزراعي بمساحة 30 ألف فدان،يتم ريه من الترعة الرئيسية لمشروع الرهد في منطقة مينا.هذا التطور اللافت أثار ضجة لم تهدأ حتى ألان.إذ تداعت قيادات المزارعين بالرهد لاجتماعات عاصفة طرحت فيها كل الخيارات ؛بما فيها المواجهة المباشرة لمنع انسياب المياه الشحيحة إلي المشروع الجديد.في المقابل فإن حكومة احمد عباس أبدت تشددا وتعنتا ،مستعصمة بما قالت انها دراسات فنية تؤكد عدم تأثير مشروع البحيرة الزراعي على كميات المياه المنسابة لري مشروع الرهد. إلا أن هذه الدفوعات لم تقنع مزارعي مشروع الرهد وإتحادهم الذي وصف أمينه العام احمد إبراهيم العربي الخطوة ب(المدمرة) للمشروع الذي يوفر الغذاء للفقراء والمساكين ،ويسهم في سد الفجوة الغذائية وتعزيز برنامج الأمن الغذائي العربي ،حسب تعبيره.وقال العربي إن مشروع الرهد يسهم في رفد خزينة الدولة بالعملات الصعبة.وأوضح أن قيام مشروع مواز يروى من ذات المصدر،سيؤدي لتشريد أكثر من 50 ألف مزارع وعامل ،يعتمدون في رزقهم علي حواشات المشروع ،الذي تجاوزت مساحته 300 ألف فدان. وكشف الأمين العام لاتحاد مزارعي الرهد انهم سيدفعون بمذكرة لرئاسة الجمهورية ،محملا والي سنار احمد عباس مسؤولية تصاعد الأزمة التي قال إنها كانت قد انتهت بقرار من وزير الزراعة قبل حوالي ثلاث سنوات.وحذر العربي من الاستمرار في اتجاه إنفاذ المشروع دون مراعاة حقوق مزارعي الرهد ، من شأنه إحداث انفلات امني بالمنطقة.وكانت معلومات قد توفرت (لأخر لحظة) عن أن ترعة مشروع البحيرة الاستثماري بسنار قد شارفت على الاقتران بالترعة الرئيسية في محطة مينا. فيما قال شهود عيان من سكان الرهد أنهم شاهدوا طلمبات تقوم بسحب المياه من الترعة الرئيسية وتضخها في ترعة المشروع الجديد،في خطوة وصفها مراقبون بأنها (جس نبض) لمعرفة ردة فعل مزارعي الرهد. المشهد الثاني... حكومة ولاية القضارف تتعاطي مع الملف بهدوء شديد رغم أنها لا تخفي اعتراضها على قيام مشروع زراعي في ولاية سنار على مساحة 30 ألف فدان ؛باعتبار أنه سيؤثر على ري مشروع الرهد ،الذي زادت مساحته عن الثلاثمائة ألف فدان بعد إضافة التفتيش العاشر ،حسب إفادات وزير زراعة القضارف د.محمد عثمان محمد نور(لآخر لحظة).وابدي محمد نور استغرابه من الإصرار على ري المشروع الاستثماري في سنار من ذات المياه المخصصة لري مشروع الرهد، مشيرا إلي أن هذه المياه على قلتها تستخدم إلي جانب الزراعة في توفير مياه الشرب للمواطنين ،مبينا بأن بإمكان سنار أخذ المياه من النهر مباشرة .ووصف وزير زراعة القضارف نائب رئيس مجلس إدارة مشروع الرهد رأي بعض مهندسي الري حول عدم تأثير مشروع البحيرة على كميات المياه «بالمعيب»،مشيرا إلي وجود اعتراضات جوهرية ترتكز على الدراسات التصميمية لمشروع الرهد،وواقع الحال الذي يوضح معاناة بعض الحواشات من ضعف الري.ونفي محمد نور أن تكون هناك مشاورات قد جرت معهم بشأن هذا الأمر،مبينا أن وزير الزراعة الاتحادي شكل لجنة لإبداء الرأي حول هذه القضية.وقال وزير زراعة القضارف أن والي الولاية كان قد رفع مذكرة لرئاسة الجمهورية في وقت سابق،مؤكدا وقوف حكومة القضارف بقوة في وجه هذا المشروع حفاظا على حقوق مزارعي الولاية. المشهد الثالث عضد هذا الموقف اهتمام المجلس التشريعي بالولاية ،الذي أوفد لجنة للتقصي حول هذا الأمر.وأوضح عضو المجلس مصطفي محمد مصطفي(جرقو)أنهم تعرفوا من خلال اجتماعهم مع اتحاد مزارعي الرهد على حقيقة القضية وحجم الضرر المترتب جراء ري مشروع البحيرة من المأخذ الرئيسي لترعة الرهد.وأشار جرقو في تصريحات (لآخر لحظة)إلي أن الوفد تمكن من امتصاص الغضب العارم الذي وجدوا عليه مزارعي المشروع ،ما أسهم في نزع فتيل وتجاوز حالة الاحتقان.وأبان أن الاجتماع الذي شهده وزير الزراعة ومعتمد الرهد قد اقر الدفع بمذكرة للنائب الأول لرئيس الجمهورية لشرح الموقف وتبيان اعتراضات المزارعين، فضلا عن تشكيل وفود رسمية وشعبية بقيادة واليي القضارف والجزيرة لمقابلة السيد رئيس الجمهورية في هذا الخصوص.وشكي جرقو من أن مشكلات الري انعكست على المساحات الزراعية خارج تخطيط المشروع ،كما أثرت بشكل واضح على الإنتاجية،مبديا تخوفه من مغبة المضي في المشروع دون النظر الي تخوفات وتحفظات مزارعي مشروع الرهد ، التي وصفها بالواقعية والحقيقية.وقال عضو تشريعي القضارف إن اجتماعا يلتئم اليوم (السبت) يضم اتحاد مزارعي الرهد وبعض الجهات ذات الصلة ،سينظر في الخطوات القادمة سعيا نحو وقف المشروع كليا. المشهد قبل الاخير... المواقف المتطابقة التي أبداها اتحاد مزارعي الرهد ووزارة الزراعة والمجلس التشريعي تؤكد أن القضية تتعدى كونها تنازعا بسيطاً إلى أزمة من شأنها أن تعصف بالاستقرار حال لم تسارع الجهات المسئولة في معالجة جذورها .فالروح السائدة وسط المزارعين تشئ بإمكانية خروج الأمر عن السيطرة في ظل تعنت حكومة سنار على حد وصفهم التي تشكو من أن واليها أكد العزم على المضي إلى آخر الشوط . ويبدو أن التنازع المفضي إلى الشقاق بات ديدن المؤسسات استقواء بآراء توصف بأنها فنية ،في الوقت الذي تقول فيه الوقائع على الأرض أنها محض تصورات مجردة ،بينها وبين الحقيقة مفازة وبيادر . ويبقى السؤال الصعب هل ينتظر الجميع انفجار البركان أم تسارع الجهات المختصة في معالجة الأزمة في طورها اليرقي قبل أن تصبح حشرة تأكل الأخضر واليابس؟