يصعب التحديد الزمني القاطع لنشأة مذهب التصوف في السودان، إذ أن التصوف مذهب وفكر قديم متعارف عليه في ثقافات وأديان مختلف الشعوب، لكننا نتلمس بدايات التصوف الإسلامي فى السودان مع بدايات الهجرة العربية، فنجد أن قصة دخول العرب إلى السودان هي قصة دخول الإسلام إلى أفريقيا، وكذلك نجد أن انتشار مبادئ الإسلام قد تحقق بالخِلطة والالتحام بين العرب والعناصر المحلية.. وفي تلك البدايات يذكر التاريخ بحرارة اسم «غلام الله بن عائد الركابي».. وغلام الله، اسم موغل في السودانوية مع أن المعني به مهاجر يمني الأصل.. من وجهة نظري فإن الاسم قد تم تحويره بلغة السودانيين من غلام الدين إلى غلام الله، ولربما كان لفظه لقباً لرجل كان خادماً لدين الله، وليس هناك ما يمنع من الاعتقاد بأن الاسم فيه ما فيه من بقايا ثقافة المسيحية، التي أثرت في لغة السودانيين الموغلة في الروحنة وإسباغ القداسة على كل صاحب مشعل ديني.. ودعك من أثر المسيحية البعيد، فالسودانيون حتى هذه اللحظة يقولون: أهل الله، ناس الله، زول الله، و«حق الله، بق الله»،،التي تعني، في ما تعني ، «عساكم طيبين».. كل هذه ألفاظ لا يستغربها حتى السلفي السوداني..! أقام غلام الله في دنقلا العجوز في النصف الثاني من القرن الرابع عشر حيث وجد المدينة «في غاية الحيرة.. وقرأ القرآن وعلَّم العلوم مباشرة لأولاده وتلامذته وأولاد المسلمين».. ويحدد ود ضيف الله صنف الحيرة التي كان عليها أجدادنا بقوله، إن الرجل كان يطلق المرأة فيتزوجها غيره في ذات النهار، دون عِدة..! سنأتي بعد حين، لنناقش كيف أن ود ضيف الله ، وكثيرين من أهل عصره، قد اتخذوا من وضعية المرأة «ترمومتراً» لقياس الحالة الاجتماعية والدينية، وهو ترمومتر صالح للاستعمال في مجتمعنا حتى الآن..! ومنذ اتفاقية البقط، تقاطرت جحافل الهجرة وتوافد العلماء والأولياء إلى السودان، لكن الفضل في انتشار الإسلام يرجع إلى جهود البدو والتجار.. و توارثت ذراري غلام الله مهمة التعليم والتثقيف الديني، وانتقلت «البركة» بالمفهوم الصوفي من الجد ذي النسب المحمدي إلى حفدته في عهد سلطنة سنار، إلى دراويش المهدية، إلى حاضرنا.. وفي تلك البدايات يسطع في تاريخ التصوف السوداني نجم الشيخ تاج الدين البهاري.. والشيخ البهاري هو تلميذ الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي أُوفِد «بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم» إلى السودان في حوالي عام 1566م، أي بعد نشأة السلطنة بحوالي نصف قرن. وفي مجئ البهاري غرابة دعا البعض إلى الادعاء بأن البهاري كان عضواً في إحدى الجماعات السرية ..!وكأن البهاري فطن إلى تساؤل الناس في الغد عن سبب مجيئة من بغداد إلى سنار فقال، والعبارة دونها ود ضيف الله: التلميذ بيكوس للشيخ والشيخ ما بيطلب التلميذ، أنا جيت من بغداد لأجل هذا الولد.. و كان ذلك «الولد» هو الشيخ محمد الهميم ولد عبد الصادق بن ماشر الركابي، حفيد غلام الله وأول تلميذ للشيخ عبد القادر الجيلاني بالسودان.. كان سطوع نجم الشيخ الهميم في دائرة رفاعة بأواسط السودان، وكان من أشهر صوفية القرن السادس عشر بالسودان، ترقى في المقامات حتى صار أصيل عصره، ولذلك لقي إنكاراً من الفقهاء، علماء الظاهر وهو صاحب الدعوة الشهيرة التي «فسخت جلد القاضي دشين»..! وقبل أن يشكك أي من الناس فى صحة هذه الواقعة، أهي «أسطورة» أم حدث حقيقي.. نقول، مهلاً: من لا يصدق التفسُخ العضوي للجسد، فهو لا يستطيع إنكار حقيقة أن القاضي دشين، الذي كان معتداً بالنص، قد «انسلخ»، و في مشاهد كثيرة من مسيرة حياته عن ثقافته الفقهية، وتوشح جبة الصوفية، حتى وهو داخل القبر..!