جلس الرجل مع نفسه، وضع وردة طازجة على جرحه، وردة من بقايا الأمس، فتح دكانة الذكرى، إستعرض قائمة طويلة من أسماء هربت من الذاكرة الغربال، وجوه وأصوات ألفها، تداخل معها وتناول في حضرتها فتات خبز الأيام ، لكن فجأة بدون مقدمات، وفي عنفوان ركضه في الحياة رمي سلة الأصدقاء والمحبين على قارعة الذكرى، في أمسية خائفة من الغيم، يتذكر وجها طفوليا وصوتا ما زال كسمفونية يطارده في ثنايا الزمن، سأل نفسه من القاع إلى القاع عن سبب غياب الأحبة والأصدقاء،سأل عن هكذا غياب بلا مواعيد أو جرس إنذار، بدأ يحصى الأسماء ، تضخمت القائمة، وأنقطع نفسه، غير أن ثمة كلمات تسيل بهدوء وإيحاء وموسيقى خفيفة النبض حركته لملاحقة الأيام الهاربة من وهج العمر ، حاول أن يقطف الخاطرة من عنق الغيمة، خذله الحرف،حاول مرة أخرى أن يكتب، إكتشف أن حروفه مشروخة كسمفونية تنطلق من نافذة نصف مشرعة، ضحك كثيرا حينما ارتاد فضاء بريده الإلكتروني، قال في نفسه ربما يستعيد الأحبة والأصدقاء نتف من الذكري ويعلقون على بريده رسالة غير معنونة، أطلق مرة أخرى ضحكة ساخرة من نخاشيش القلب، ضحك حينما إكتشف أن بريده، تحول بمرور السنين إلى شيخ هرم يدخن بشراهة ويغني على قارعة الليل، تذكر أنه « راحت « على البريد الإلكتروني والتهمته وسائل التواصل الإجتماعي الأخرى ، بحث عن معبر يقوده إلى الغائبين عن عناوينهم، إكتشف أن أقسى متاهة أن تسأل عن شخص ولا تعرف له دليل أو روزنامة تقودك إلى عالمه، ردد مقطع من أغنية « دقيت ليه ما رد « للجميل طه سليمان، والتي أطلق نصها رجل هارب من صمته إلى صمته . سألت عليه في البلدان سألت وما لقيت عنوان فعلا لم يجد عنوان للهاربين، إنه مجرد سؤال، سؤال لا يطاله صقيع الصمت، ولكن رغم بحثه المستفيض لم يجد إجابة لترويض صقيعة، و وجد نفسه كمن يحرث في دوامات لا نهائية من الماء، يستفزه جنون الوقت، يكتب عن العطش العاطفي، يتذكر وهو في قمة تجليات غياب الأحبة والأصدقاء، إن جيناتنا الوراثية، يا حسرة مصابة بالجفاف العاطفي،نعم أنا وانت وجميع المنظومة السودانية مصابون بالجفاف العاطفي، جفاف تتحدث عن الركبان، وتتغنى به الصبايا، أرجو أن يمسك الحمقى من الجنسين رجال ونساء أعصابهم، أرجو أن لا يدعى أحد من هؤلاء المحموقين إننا نمتلك كميات وافرة من العاطفة الجياشة، بالعكس نحن سادة العاطفة المنطفئة وأنا أول المنطفئين أهي .