أدب الخطابة رسالة عميقة الجذور لها ما بعدها من قيم التعامل.. كلما كان الصوت متشرباً بأبعاد الاستماع (الذوقي) كلما كان الصوت مرغوباً ومحبوباً لأن الإجادة في الصوت تعني التحكم في النطق السليم.. وأحسب أن جمال الصوت ورقته أحد ركائز الترغيب والقبول. يقول الله في كتابه الكريم في سورة لقمان «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» من هنا يتضح جلياً مضمون الصوت في المعاملات أياً كان في المنابر، في المحافل، وفي الإعلام المرئي والمسموع، لذا الثوابت هي انسياب الصوت إلى الأذن الاستماعية بقدر معلوم يعدل الجانب الآخر، راضياً بالنطق ومستوعباً لحركات الصوت وراغباً في التداول والفهم من خلال حركات الغم، وما حوله من معينات وبأسلوب مقنع ومرضي، فإذا تجاوز الصوت حدود القبول يكون قد وقع في المحظور هو الأفكار الملازم لصوت الحمير لأنها نشاذ وصادمة لآليات الأذن التي ترسل ذبذباتها إلى المخ، فيترجمها إلى منافذ الأعصاب فيكون الوضع هو الرفض التام لمثل هذه الأصوات. أقول هناك مواقف تصبغ الأصوات بجماليات الفضل والتكريم وأحسب ما قاله رسولنا الكريم في حث راوي الحديث موسى الأشعري حين قال له الرسول صلى الله عليه وسلم.. «ياموسى أني لاعرف صوتك في جوف الليل.. فقال يارسول الله لو كنت أعلم أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً فرسولنا الكريم بشَّر القراء المهرة بأنهم مع السفرة الكرام.. أي مع الملائكة.. لذا الصوت الجميل هو دلالة على الأدب الرفيع، فانخفاض الصوت باعتدال وتوازن هو سر يأخذ صاحبه إلى مقامات النجاح.. خاصته بلاغة الخطباء في المنابر، فإذا كان بارعاً في صوته تصحبه خطبة جادة يكون قد حظي بزاد الاسبوع.. أي من الجمعة إلى الجمعة. أقول ما أعظم الأصوات الندية العذبة والطاهرة والمطهرة.. ليقف سيدنا أبوبكر الصديق الخليفة الأول لرسولنا الكريم شاهداً على تفصيلها وترجمتها لإحساس صادق لا يمكن أن تحتمله البشرية، وذلك حينما أسرى رسولنا الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء هناك.. ثم عرج إلى السماء السابعة وفي هذا المعرج تفاصيل دقيقة.. ومواقف تؤكد مكانة رسولنا الكريم.. إلى أن وصل مراقي تجلت فيها دقة الوصف وهو يعتلي جزئية التفرد التي لن تتكرر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وفي تلك الأمكنة الإضائية زارت رسولنا الكريم وحشة (حينها سمع صوت أبوبكر فهدأت تلك الوحشة).. لأنه الحبيب المقرب لأفضل خلق الله. إذاً يبقى صوت سيدنا أبوبكر الصديق حالة ارتضائية يسمو فيها الجمال الروحي، وتتلاقى فيها القيمة المشبعة بمتانة الرقة اللامحدودة.. لترسخ في تلك الأماكن التي لا يحتملها البشر وغيره من الخلق. أقول الصوت في تقديري هو نقلة حسية كاملة التوجه ونبض يدلف إلى تعديل خصائص الترغيب الاستماعي في الإنسان والحيوان، وحتى النباتات لها لغتها المتبادلة.. وتبقى قصة جذع الشجرة الذي بكى بصوت دافئ لفراق الحبيب المصطفى ولم يسكن حتى أرضاه خير خلق الله بأن قال له (أنت معي في الجنة). من هنا أقول القرآن الكريم بيَّن في كثير من الآيات القيمة الجمالية في الصوت وبمدلولات نيرة أشارت لها بأنها رسالة انبعاثية تفضي إلى التقويم والاعتدال، والأخذ بالقول الذي يناهض التغير الخاطئ لبعض الحقائق الجوهرية ليستمع اليها المرء المؤمن، ويأخذ بناصيتها خشوعاً إلى الخالق.. وما أعذب وأنضر للأصوات التي تتلو القرآن ترتيلاً.. لترحل بك إلى عوالم الإيمان والزهد من رغبات الدنيا الفانية. الصوت أحبتي هو نقلة استماعية كما ذكرت من اللسان إلى الأذنين، فيترجمها العقل وتقبلها المشاعر بوجدانيات متغايرة، من حيث المعنى والمضمون.. ولا غريب أن يكون للصوت جانب مؤثر وعلى صعيد السياسة كان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر متميزاً في صوته، وكانت كل الدول العربية في ستينيات القرن الماضي أكثر استماعاً له أولاً لأنه كان صادقاً في رسالته العربية عبر صوت ممتلئ بوظائف الترغيب، خاصة ما بعد نكسة 1967 إلى أن انتقل، وبعده توقف نبض المتابعة الاستماعية لقيادي عربي في تلك الحقبة المتفردة، وهناك أهل الإنشاد والمديح تجد أصواتهم مشحونة بدقة يلازمها وضعاً جاذباً يجعلهم في حالة منظورة قوامها الإندياح في وصف رسولنا الكريم. أقول تبقى الأصوات الغنائية حالة خاصة بمرئيات لا يمكن الأخذ بها إلى منصات التتويج والتفصيل والتدقيق، ولكنها ممارسة مفروضة لواقعنا المعاش نلتمسها إذا كان العمل الفني خالياً من الإثارة والوصف لمفاتن المرأة.. وقد أعطانا التطريب السوداني في فترة سابقة جودة النص ومتانة التعبير.. وقد قال لي أحد رجالات الدين الغناء حالة تعبيرية إذا خرجت عن الفضائل أصابتها اللعنة، فاحترام الصوت الجميل هو ميزة مقبولة.. وتبقى الأعمال الغنائية التي تخاطب الروح الوطنية رسالة رقيقة وفاضلة ولا غبار أن تتمدد في معانيها.. وتبقى الأغاني العاطفية في حكم آخر.. ولكن يظل الصوت أمانة لابد أن تعكس قدرتها في الايصال وبقناعات ترضي كل الأطراف ونحن في محورها استماعاً.. وتبقى الأغاني القديمة لها طقوسها الجمالية.. وما أعظم الطير المهاجر للشاعر المرحوم صلاح أحمد إبراهيم.. وبأداء متفرد للراحل محمد وردي فهل بمثل هذه الأعمال نتوقف عندها!.؟ تبقى عندي الأصوات الإذاعية، فهناك من خلفوا رسالتهم الإعلامية ووضعوا بصمتهم، ومازالت أماكنهم تجد وضعها في الأذن السودانية، بل أن أصواتهم كانت مجيدة لرسالتها الإعلامية من حيث التعبير الدقيق، وقوة الوصف والنطق السليم، فكانوا أكثر تميزاً يصاحبهم القبول.. ليقف المرحوم المذيع عبد الرحمن أحمد أحد الأصوات الإذاعية الراسخة في الأداء الرفيع.. وهناك حمدي بولاد.. حمدي بدر الدين.. ذوالنون.. علم الدين حامد.. عمر الجزلي.. المرحوم أحمد سليمان ضو البيت.. بنات المغربي.. سكينة عربي.. سعاد أبو عاقلة.. محاسن سيف الدين والقائمة تطول لتوفر المناخ الجاد والمهنية الدقيقة في تلك الحقبة.. وصولاً للجيل الحديث الذي يحتاج لبعض المراجعات.. ولكن لفت نظري المذيع مازن صلاح أمين عبر أثير الإذاعة الرياضية، فهو في تقديري يتمتع بقدر عالٍ من النطق السليم والصوت المقبول.. ختاماً لتبقى قصة سيدنا عمر بن الخطاب عند دخوله للإسلام معلماً بارزاً وحافلاً بمؤثرات الصوت حين دخل غاضباً لدار أخته فاطمة بعد أن علم بإسلامها مع زوجها.. فما كان منه إلا أن ضربها حتى سال الدم من فمها.. ولكنها هدأت من ثورته.. فاستمع اليهم وتمعن في سورة طه.. وما تم من بعد ذلك من مواقف.. لينشرح صدره وتغيرت أحواله تماماً.. ليكون الصوت الشفيف والممتلئ بتلاوة القرآن أحد مفاتيح إسلامه، ليترتب بعد ذلك إشهارالإسلام، ويؤذن بلال رضي الله عنه على الملأ بذاك الصوت الأول في الإسلام. أقول.. علينا باحترام الأصوات الناجحة لأنها تؤدي رسالتها فيكون الاستماع إليها نتاج قبول وتذوق، ومنها يكون الفهم تحصيلاً رفيعاً لأدب الاستماع. ü عضو اتحاد الصحفيين السودانيين.