كنا نشفق على شعارات السيد الصادق المهدي وهو ينادي بالجهاد المدني، والانتفاضة المحمية أو الانتخابية، باعتبارها قلة حيلة، وهو بالفعل لا يملك حزباً يستطيع أن يقود صداماً. وكنا نتساءل: ماذا ينفع من مثل هذه المحاولات اليائسة والبائسة مع عتاة في تصفية الخصوم.. ولكن يبدو أن حاسة الشم والتنبؤ باتجاه الريح كانت متقدمة لدى هذا الزعيم، ولا يهم إن كان السبب قدرته العالية في التحليل العقلي أوما هو مكتسب من مكابدة التجربة. أو من مكابدة الضعف !! لم نكن ندري أن محاولات رمزية في المقاومة قد تقوم مقام ثورة شعبية عارمة. قوة الحيلة مع أعاصير العولمة أصبحت تضاهي قوة السلاح. لم يعد هناك ضعفاء. وهذه الظاهرة بدأت بثورة الحجارة في فلسطين المغلوبة على أمرها،وتمر الآن بثورة الأحذية وهي محاولات رمزية لها ما بعدها!! وقبل أيام معدودة ضربوا (كلنتون) الوزيرة السابقة للخارجية الأمريكية! وأذكر أيضاً أن وزيرًا مصرياً هو «أحمد ماهر» ضرب بالحذاء في القدس وهو يصلي تحت حراسة الجنود الصهاينة حتى أغمى عليه، وقد كان احتجاجاً على الكرامة العربية الاسلامية المجروحة. التسابق والهرولة إلى الحضن اليهودي كان باعثاً لغضب المصليين.. وماذا سيفعلون سوى أن يتخذوا هذا الوزير المسكين رهينة ويضربونه بالحذاء!! وماذا كان يملك الشعب العراقي ليسترد به كرامته من الامريكان سوى حذاء الزبيدي الذي ضرب به الرئيس الامريكي بوش. وهناك الزعيم الايطالي برلسكوني الذي ضرب بالحذاء حتى ادموا وجنتيه. ويبدو أن هذه الضربة كان لها مفعولها فلم يبق طويلاً في الحكم. أما رئيس وزراء الصين السابق «دون جيا باو» فقد أخذ حظه أيضاً عندما ضُرِّب بالحذاء في بريطانيا، وهو يلقي محاضرة في جامعة كمبردج!! ومن مفارقات أثر هذه الثورة الرمزية على أنصار هؤلاء الزعماء أن والدة الزعيم الصيني أصيبت بنزف في المخ عندما شاهدت ابنها الذي ملأ الآفاق يضرب بالحذاء في بريطانيا! ويبقى أن الطالب الذي ألقى الحذاء لم يوصف بالجنون، بل أن المحكمة برأته حتى من تهمة الإخلال بالنظام العام!! وهذا الموقف أصبح دليلاً على أن الحكومات أصبحت تعالج هذه الظاهرة بقدر من العقلانية. وهذه المعالجة هي نفسها استعان بها السيد رئيس الجمهورية في السودان عندما ألقوا عليه نفس الشيء ، فقد أعلن أنه سيتكفل بعلاج صاحب الحذاء!!. وبعد حادثة السودان بقليل ألقت امرأة بحذائها في وجه مرشح رئاسي كولمبي، وقد كان يمثل حزباً دينياً محافظاً. وكما حاول الرئيس السوداني امتصاص الحرج والصدمة بتبني علاج «المريض» نزل الرئيس الكولمبي من المنصة وهو يتبسم ليناولها حذائها ثم أرسل إليها قبلة!! وتعرض وزير الطاقة التركي إلى اعتداء جسدي أثناء تشييع أحد الضباط الذين قتلهم الأكراد. هذه اللكمة تلقاها من مدرس رياضة، أما الضربة فقد تسببت بكسور في أنفه ونقل على أثرها إلى المستشفى. اكتفى رئيس الجمهورية «عبد الله جول» ورئيس الوزراء «أردوغان» بالسؤال عن حالة الوزير، ولم يكن هذا غريباً عليهما لأنهما قبل أيام معدودة شاهدا (أحمد تورك) رئيس حزب التجمع الديمقراطي، يضرب في منطقة البحر الأسود،ولم يفعلا شيئاً سوى أقصاء مدير الأمن هناك بدعوى إهمال الوظيفة!! مثل هذه الأمور كان الشروع فيها منذ سنوات معدودة مدعاة لقطع الرأس. ولكن مع نسمات العولمة لا يصح إلا الصحيح، التخويف والاستخفاف لم يعد أمامها مساحة يرتاح عندها الاستبداد السياسي. تقاصرت المسافات بتكنلوجيا الاتصال ومن آثاره تفكيك وسحق الخصوصيات والقوميات والهيمنة على الشعوب بحجج الشؤون الداخلية. لم يعد هناك مجال لاستعباد الشعوب بالقهر المادي والثقافي و الديني. أما العولمة فهي في الأصل أن يقاسمك الآخرون خصوصيات شئت أم أبيت. بالاضافة إلى مغريات الاعانة الدولية والعقوبات الاقتصادية هناك حق استعمال القوة، وحقوق الانسان أصبحت قانوناً عالمياً ملزماً. أمريكا نفسها يتم فضحها إذا تجاوزت هذه الحقوق. الملاحظ أن المستبدين بدأوا الانحناء أمام أعاصير العولمة ومن بين هذه الفجوة يتنفس الضعفاء. ضاقت الفرص أمام الانقلابات العسكرية، واتسعت ساحات الديمقراطية. لم يعد الحكم من نصيب المغامرين بل صار حكرًا على الأذكياء: استطاع الرئيس الأولمبي كما تقدم أن يمتص الصدمة بذكاء شديد، فلو تمادى فلن ينجو من غيره. لأن المدد الخارجي يحرض الشعوب على التمرد والحرية. وأعجب مما كنا نسمعه من أنصار الحكومة في السودان أيام الانتخابات انهم كانوا يعيبون على أحزاب المعارضة الذين كانوا ينتظرون مددًا خارجياً، وحكومتهم تتحالف بالسر والجهر مع القوى الخارجية. يريدون بحجة التعامل مع الخارج أن يستضعفوهم، وقد كان هذا أمرًا مستحيلاً والانتظار كان طبيعياً لأن المدد الخارجي آتٍ.. آتٍ !! ومفاهيم «السيادة» لم تعد كما كانت في الستينيات. والخلاصة ببساطة لا بد من اعادة صياغة الأهداف وقراءة الشعارات القديمة وتغيير الآليات.. ولابدمن السؤال: لماذا تستضعفونهم أصلاً وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!! وهذا أمر قد سبقنا عليه الخليفة عمر (رضي الله عنه) !!