الجنرال يونس.. لك أمطارٌ من الود.. وتلالٌ من السلام.. وبحارٌ من الاحترام.. ونعود لك مرة أخرى.. نواصل ما انقطع من حديث معك.. كنت أتمنى أن لا يعترض مجرى سيلي العاصف الهادر.. جندول.. أو صخرة.. ولكن لأمر طاريء ولحادث لا يقبل التأجيل فقد قطعت سلسلتي.. والتي هى الآن في آخر حلقاتها وحمداً لله كثيراً.. إن تأخرت كلماتي الأخيرة لبعض وقت أتاح لي أن التقط أنفاسي.. وأن أقرأ حلقتك الأخيرة في تأمل ويقظة وانتباه.. أحزنني كثيراً ذاك الوجع الذي كان لمقالك الأخير دثاراً وإزاراً.. حتى خلت الدموع وهي كحبات كرستال تتجمد في مقلتيك.. ويشهد الله إني كنت وفي رسالتي الخاتمة أود أن أكتب لك في ذات الموضوع.. وها أنت تتبرع في حاتمية لي «بطرف الخيط» إذن دعني أكتب رسالتي الأخيرة ليأتي ردك المغموس أو المعطون في قارورة شكري للمتابعة والتعليق.. ليأتي ردك شاملاً وكاملاً كالقمر في منتصف شعبان.. والآن يا جنرال نبدأ معك «الونسة» رغم أني اعتقد جازماً إنك تعيش الآن في خيمة عزاء وأقداح القهوة المرة تنسج شبكة هائلة من الغدو والرواح بين المعزيين.. وأخالك تغالب دمعاً وتكتم وجعاً.. حزناً وأسى على رحيل «انقاذك» أو استبدالها بانقاذ أخرى.. وأنت لا ترى فيها صورة بل أنها ليست سوى «عفريته». بالمناسبة.. أنا أقدم لك ذاك العزاء انطلاقاً من توادد وتراحم ومؤازرة في الملمات وليس لأني أرى ما ترى.. بل دعني أقول في ثقة أو في فرح.. وبعد أن أشكر الله رب العالمين إني أرى الإنقاذ الآن خير ألف مرة من تلك التي هبت عواصفها في تلك السنوات المفزعة.. «يعني» إني أرى إن الإنقاذ الآن بدأت تتعافى من ذاك الجن الكلكي.. وهي في فترة «نقاهة» ليعود الوطن وضيئاً ومشرقاً وبديعاً لينضم مرة أخرى لقوافل العالم المتحضر المتجهة يوماتي إلى مرافيء الإنسانية الشاهقة.. تحدثت في أسى عن تلك الأيام التي خلت فيها الجامعات وفصول التدريس من الطلاب والأساتذة، وهم يتنادون إلى ساحات الوغى والجهاد، وصورت كيف كانت دموع الموظفين وحيلة في الدموع أسفاً على تخلفهم عن ساحات المعارك.. وتحدثت عن الجالسين على الرصيف والمعارضين.. نعم يا جنرال.. فقد تدافعتم إلى ساحات القتال.. وضج الفضاء بالأناشيد الصاخبة.. ولم تتركوا بوصة في الأثير إلا وزرعتم فيها «في إيدنا رشاش في إيدنا خنجر».. وشتلتمم بجوارها «فلترق منهم دماء.. ومنا دماء وفلترق كل الدماء».. كنتم تضحون بأرواحكم.. وكنا نقول ولكن في همس إن تلك المعارك لا تقود إلى نصر حاسم.. بل أن المفاوضات هي التي يجب أن تحسم أمر الخلاف.. وأن القضية هي قضية سياسية وليست قضية جهادية.. وأخيراً وبعد خمس عشرة سنة وتزيد رست سفينتكم إلى شاطئنا عندما أشرقت شمس «نيفاشا» وصمتت المدافع.. وألجمت البنادق.. وتبددت من على السماء سحب الدخان.. وعم السلام.. و«كلو كويس» رغم ذاك الانفصال المؤلم والمؤسف والأحبة الجنوبيون يذهبون بأرضهم وشجرهم ودوابهم إلى أرض أخرى وبلاد أخرى.. ولكن قبل الانفصال الأليم فقد جاء «قرنق» الذي كان مجرد النطق باسمه أو الالتقاء به هو خيانة عظمى.. جاء قرنق إلى الخرطوم.. وتجول في ردهات القصر الجمهوري بل صار الرجل الثاني في الدولة.. يا للبهاء.. ويا لشمس السودان وهي تشرق في ذاك اليوم البديع على وطن نفذ في دقة مقاطع الأناشيد «وطن للسلم أجنحتو.. وضد الحرب أسلحتو».. قبل أن اختتم وقبل أن أقول وداعاً.. دعني أقول.. إننا كنا نضحك ملء أشداقنا عندما نتذكر منشدكم وهو ينشد.. «حكمنا شريعة وتاني ما في طريقة لي حكم علماني».. كنا نقول يا راجل.. ها هي العلمانية تتجول في ممرات القصر المفروشة بالموكيت.. وحوائطه المجلدة بالسراميك. مع السلامة يا جنرال ولك فائق تقديري