ü مسكين العراق.. أرض الرافدين ومستودع النفط الكبير وحقل التمور الأعظم.. فمنذ الفتنة الكبرى ومقتل عثمان بن عفان- رضى الله عنه- وعلى مدى أكثر من أربعة عشر قرناً، لم يهنأ العراقيون بالاستقرار إلا لفترة محدودة، هي أيام الخلافة العباسية التي ورثت مجد «آل هاشم» بعد اطاحتها بملك الأمويين انطلاقاً من فارس (ايران) وبحراب «الموالي البرامكة» وسيوفهم، فكانت النهضة والتوسع وعصر الترجمة في خلافة المامون وكان «الخراج» يأتي للرشيد من أيُّما سحابة أينما هطلت في بطاح الامبراطورية الممتدة. ü في العصور الحديثة ظل العراق، بثرواته الظاهرة والباطنة، غنيمة يتقاتل عليها الطامعون من أتراك وبريطانيين وفرنسيين.. وعندما امتد نفوذ الانجليز إلى الجزيرة العربية وأطاحوا بسيد مكة الشريف حسين- اثر الثورة العربية الكبرى- وزعوا ملك الأشراف بين الأردن والشام والعراق، ولم يستقر لهم الأمر في العراق وانتهى عبد الاله مقتولاً ببنادق البعثيين، حتى استقر الأمر بعد نوري السعيد وبعد أكثر من انقلاب بين يسارهم بقيادة عبد الكريم قاسم ويمينهم بقيادة العارفين عبد السلام وعبد الرحمن والبكر وصدام. ü صدام كان «عفريتاً» دخل إلى السلطة بالدم وخرج منها بالدم إلى القبر ولم يبالِ، حتى عندما اعتلى منصة الاعدام، لكنه كان «عفريتاً» يَحُول بين العراق وعشرات العفاريت الأخرى المحلية والاقليمية والدولية المتأهبة للانقضاض على بغداد والبصرة والكوفة والنجف والموصل وكركوك والرمادي واربيل والسليمانية. ü خلال الاسبوعين الاخيرين فوجيء الجميع بشيء غريب كما اسمه يدعى «داعش» يسقط الدولة على حين غرة في ربع مساحة العراق الشمالي الأوسط قرب الحدود مع اقليم «كردستان- العراق» ذي الحكم الذاتي.. داعش هي اختصار ل«دولة العراق والشام الاسلامية»، تأسست من فلول «القاعدة» في العراق التي قادها «أبو مصعب الزرقاوي» الأردني ذو الأصول الفلسطينية، وراح مقتولاً بأيدي مقاتلي العشائر العراقية «الصحوات» حتى قبل انسحاب القوات الأمريكية من العراق.. لكن- والعهدة على الراوي- فإن عناصر القاعدة تجمعت من جديد بمساعدة وتمويل المخابرات السورية عندما أحاطت الثورة ببشار الأسد، ولم يجد وسيلة ل«خلط الكيمان» واتهام «الجيش الحر» والثوار بفرية «الارهاب» غير اللجوء إلى «القاعدة» في العراق بعلم مقاتليها بالمخطط أو باستغفالهم، لا فرق، وربما بمساعدة أشد غباءً من حليفه نوري المالكي في بغداد.. لينطلق هذا العفريت الجديد المسمى داعش يقاتل في سوريا ثم يهجم على العراق، المحتقن أصلاً جراء سياسات الإقصاء والتهميش التي مارسها المالكي و «حزب الدعوة» ذو المرجعية الايرانية، الذي لا يعترف بالنجف ولا بالشيخ السيستاني، إلا على استحياء. احتلت داعش عناوين الصحف والشاشات الفضائية، على أن كل ما جرى في العراق من هزائم للجيش العراقي في الموصل ونينوي وصلاح الدين والأنبار كان من صنع مقاتليها، ولكن الحقيقة التي تأكدت خلال الأيام الثلاثة الأخيرة تؤكد أن داعش لم تكن أكثر من «خميرة العكننة» أو «الفتيل» الذي فجر «القنبلة الدفينة» التي تشكلت عناصرها على مدى سنوات متوالية من المظالم التي لحقت بالمناطق السنية والتهميش الذي مارسه المالكي ونظامه الطائفي.. فتفجرت الاقاليم السنية واشتعلت النيران المخبوءة تحت رماد الغضب المكتوم.. فبدأنا نسمع عن «ثوار العشائر»، وعن بقايا البعث وعسكره وضباطه المتقاعدين الذين سرحتهم قوات الاحتلال الامريكي منذ «حكومة بريمر»، وبدأنا نسمع عن «الطريقة النقشبندية» بقيادة نائب الرئيس السابق عزت الدوري.. وإلا، كما قال أحد اولئك الضباط البعثيين السابقين حسام الديلمي رئيس «المكتب التنفيذي للمجلس السياسي العام لثورة العراق» من الأنبار لقناة «الحدث- العربية»، أنه ما كان بامكان داعش التي تعمل باسلوب القاعدة في التفجيرات وتكتيك «اضرب وأهرب» أن تحتل المدن وتحرر المحافظات وتحتفظ بالارض وتخطط عسكرياً ولوجستياً للتقدم باتجاه بغداد وللسيطرة على المعابر الحدودية.. يقول حسام بذلك ويسانده في ما ذهب إليه العقيد (السابق) مازن السامرائي.. فالأمر أكبر من «داعش» وحلمها بإقامة دولة اسلامية تجمع بين الشام والعراق. ü من العفاريت الاقليمية والدولية، تقاطرت على العراق والمنطقة وفود تمثل ايران (قائد الحرس الثوري) والولاياتالمتحدة (وزير خارجيتها جون كيري) الذي عرج على أربيل بعد بغداد والتقى مسعود البرزاني رئيس وزراء كردستان.. ومن بريطانيا وزير دفاعها.. وغيرهم كثير من أولئك الذين يقومون بالزيارات غير المعلنة من «بصاصي» المخابرات المحترفين. الولاياتالمتحدة ومن خلفها بريطانيا أبدوا استعداداً خجولاً ومتردداً لمساعدة المالكي وحكومته، بل طالبت واشنطن علناً على لسان أوباما وكيري بأن مساعدة العراق تستلزم تشكيل حكومة «قومية» تستوعب جميع مكوناته ولا تقصي طائفة أو منطقة.. لكن يبدو أن آخر الخيوط التي تشد اقاليم العراق وأجزاءه إلى بعضها قد أخذت في الوهن، فها نحن نسمع «البرزاني» يقول عقب لقائه كيري «العراق لم يعد العراق الذي نعرفه».. يقول هذا بعد أن استولت قواته على كركوك وجلجولا ومعبر ربيعة الواصل لاقليم الكرد في سوريا عند أقصى الشمال.. فقد بات الأكراد على ما يبدو قاب قوسين أو أدنى من اعلان دولتهم، فهم يُصدّرون نفط الاقليم «على كيفهم» عبر تركيا، التي ألمحت بدورها عن استعداد للاعتراف ب«كردستان العراق» الدولة المستقلة. واقع العراق اليوم يفرض جملة من الاسئلة الجوهرية: هل شيعة العراق وحكومة المالكي على استعداد لتغيير معادلة السلطة في بغداد القائمة على الاقصاء والتهميش؟ هل الولاياتالمتحدة جادة في رؤية عراق موحد وقوي ومتماسك أم أن نظرية كونداليزا رايس حول «الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة» هي التي تحكم مزاج الإدارة الأمريكية ومراكز صنع القرار في واشنطن؟ هل للجارة الشرقية ايران رغبة في عودة العراق متماسكاً ومتوازناً طائفياً أم أن هيمنتها ومشروعاتها وخططها المؤسسة على «ولاية الفقيه» تقتضي أن يكون الطريق سالكاً إلى «العتبات المقدسة» والمناطق الشيعية بالمنطقة العربية بلا أي عراقيل؟ هل للجارة الشمالية سوريا، «المزنوقة» بثورة أكلت الأخضر واليابس أدنى مصلحة في استقرار العراق أو غيره في المنطقة قبل أن يأمن بشار ونظامه على مستقبله السياسي، بعد أن بات «الطريد الأوفر حظاً» في المنظومة العربية؟ وهل السنة العراقيون الذين يحيط ثوارهم ببغداد إحاطة السوار بالمعصم على استعداد للتراجع وتسليم أرضهم و«دقونهم» للمالكي أو غيره من القيادات الشيعية مرة أخرى، أم انهم سيهتبلون السانحة التي قد لا تتكرر قريباً ليقرروا مصيرهم بايديهم وليس بايدي الوسطاء؟ اسئلة تستعصي على الاجابة الفورية الناجزة، وتنتظر الأيام المقبلة ليأتينا بالأخبار من لم نزود؛ ولو كان أحد «العفاريت»!