حقق مذهب التصوف الغلبة والانتشار على مذهب الفقه في مجتمع السودان قديما وحديثاً ،و بين شعوب الشرق عامة. وفى سودان السلطنة الزرقاء، كانت الطريقة الصوفية بمثابة الوحدة الاجتماعية التالية لكيان القبيلة، أو هي النواة التى قامت عليها السلطنة/ الدولة..تضافرت عدة عوامل هيأت للطريقة الصوفية أداء هذا الدور التاريخي، أهم تلك العوامل: ارضية التسامح بين مذهبية التصوف المتسامحة والإرث المحلي..على هذه الارضية استشرت المفاهيم الصوفية كاضافة الى التنوع الثقافي والعرقي ،، وببريق قدسية الفكرة، أصبح منهج القوم « مشروعاً فكرياً « ، لتوحيد أطراف المزيج ، بعد انقطاع المدد المسيحي.. بمعنى آخر، لقد تضافرت مفاهيم التصوف مع ذيوع اللُغة العربية بين اطراف المزيج فكان ذلك بمثابة تعضيد لتماسك « الجبهة الداخلية» ، بلغة عصرنا الحاضر.. وبهذه «الحِزمةالايدلوجية» التى شكلت قاسماً مشتركاً بين الألسن والمعتقدات قُدِّم الطرح الديني فى بصورة مبسطة، دون ارهاق للناس العاديين بالقضايا النظرية، مع تحفيزهم لممارسة التعبُّد بحرية، بالترغيب دون الترهيب، و بممارسة المشايخ لدور القدوة الحسنة. كانت أوراد الطريقة القادرية وغيرها من الطرق التى انتشرت لاحقاً ، وفي مستوياتها الدنيا والعليا أي الورد الاساس، والوِرد الاختياري بمثابة تعويض لمن فاته التعلُّم على طريقة التصاحيف المعروفة لدى الفقهاء، لا سيما وأن تداول الحرف فى مجتمع القرن الخامس عشر، بل ومنذ قرن خلا ، كان قليلاً.. على هذا اتُخِذت أوراد الطريقة «حجاباً وحِرزاً» ضد رعونة البيئة، و سبيلاً لنيل السعادة الدنيوية، وبلوغ المعرفة الاشراقية المُبتغاة من الغوص فى مسالك الروحنة.. وقد أذكى التمسك بالاوراد وارتياد مجالس الذِكر وساحات المديح، أذكى جذوة التطلع إلى الغد الفسيح، بموعوداته الملموسة ، وببشرياته الميتافيزيقية المفعمة بالروحنة ، وبالفيوضات المنتظرة، فى مسالك الطريق حتى تلقي « الوعد» كفاحاً..وهنا ينبغي الاشارة الى مسألة عرفانية فى غاية الدّقة، هي أن العابد يتدرج فى مسالك الايمان بترويض نفسه بين الاضّداد، ليعرف «الحق» بضدّية «الباطل»،على قاعدة :» وبِضدّها تتميّز الاشياءُ»..ثم يتدرج فى الطريق، ماشاء الله له البقاء فى منعرجاته، حتى يتهيأ لمعرفة «الحقيقة» المُنزهة عن الغيرية..وما من شك ، فى أن هذه الاشارات وغيرها ، لم تكن هي مطلوب الناس فى تلك البدايات، وهذا ما فطن اليه الصوفية، فلم ينثروا الدُرر، بل قدّموا معرفة على قدر الحاجة، نزولاً عند حكم الوقت.. وهكذا التزم الصوفية بارشاد الناس وتدريجهم ، جهد الطاقة، فحشدوا الاتباع بالولاء لسلطةٍ أعلى من سلطة شيخ القبيلة، ولمملكة أكبر من ممالك الزمان الماثلة والمندثرة، فنقلوا المجتمع ببط من الانغلاق، إلى ثقافة الدولة، ومن هنا تهيكلت الدولة في الذهن السوداني «مُروْحَنة» في نشأتها ومآلها!.و كان «المسيد» مركزاً للمعادلة بين القبيلة والطريقة، وهو لفظ عامي ،يعني سودنة محل العبادة وتحييده بلغة العُجمة السائدة، ليكون وريثاً لمجلس القبيلة، وميداناً تتلطف فيه غلواؤها ومنطلقاتها العرقية والثقافية.. فالمسيد أذن هو المسجد ، وقد قلبت الجيم ياءً كما هو معهود في العربية، أو تراخياً مع سطوة العُجمة على الألسن حينها. وقد اتخذ المسيد كمصطلح يعني مركز الحراك الاجتماعي والروحي وأداة مذهبية/ صوفية في ترقية القبيلة نحو الولاء للمقدس فوق الولاء الاثني، حتى طغت المعاني السامية المشتركة بين كياني القبيلة والطريقة على وظيفة المسيد، فتجسدت في ربوعه قيم النخوة والكرم والإيثار والتراحم وغيرها من نقاط التلاقي بين العرقي والعقدي، لكونه مؤسسة ، ذات قدرة باهرة ، على إزالة الحواجز العرقية والجِهوية.