كعادته في كل عام، قدّم البروفيسور شارل بونيه، عالم الآثار المعروف تقريره السنوي، وخلاصة ما توصل إليه من كشوفات أثرية في حضارة النوبة، التي ظل مثابراً على التنقيب فيها، على مدى خمس عقود من الزمان. لقد أصبح البروفيسور شارل بصبره وسِعة علمه وسماحته وإنسانيته الدّافقة، جزءاً لا يتجزأ من تاريخ السودان، وفرداً من عائلة كل بيت في «الدفوفة»، يعرف أهل النوبة وطقوسهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويتحدث عنهم حديث المُحِب في كل محفل.. تعلّم شارل بونيه خلال زياراته الشتائية لمناطق النوبة، رطانة المحس والدناقلة، بالإضافة الى العربية، واستخرج من عمق الرمال الزاحفة قصوراً وتماثيل، وأيقونات ونقوشاً، يعود تاريخها الى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.. ستكون نتائج ذلك العمل وتلك الحفريات، شاهداً عند أهل العلم، في رحلة التّقصي عن مبتدأ حضارة الإنسان على ظهر هذا الكوكب. أشار البروف شارل بونيه، خلال محاضرته التي جاءت تحت عنوان (الحضارة النوبية..الحقائق الغائبة)، أن العلاقة بين النوبة العليا والنوبة السفلى، أو بين مصر والسودان، كانت مدّا وجزراً على مدار التاريخ وحتى زماننا هذا- وعلى حد تعبير البروف- فإن تلك العلاقة، كانت تتراوح دوماً بين (الحُب والحرب)، وأن التواصل الحضاري أعلى النهر وأسفله، كان يتدافع أعلى وأسفل النهر، من ناحية الجنوب، وتارة من جهة الشمال.. وهذا ما يجعل البروفيسور يرجئ التقرير في نسبة نمط العمارة المُكتشفة في حضارة كرمة، أهي نوبية أم هي فرعونية..؟ لكن على التحقيق، هي حضارة عريقة شعوب وادي النيل، ولم تزل تلك الحضارة تشكل وجدان الإنسان المنطقة.. أكد البروف في معرض إجابته على أحد الأسئلة، أن نوبة الجبال- جبال النوبة- ونوبة الشمال، يتلاقون في أصل مشترك هو انتسابهم للحضارة المروية. وتوقف البورفيسور بونيه، عند علاقة سيدنا موسى عليه السلام بحضارة بلاد النوبة، فقال بورع العالِم الذي يحسب كلماته بدقّة، أنّه ما مِن شكٍ، أن لموسى عليه السلام وأمه، علاقة وطيدة بأرض النوبة، لكن الحفريات والشواهد التي أمامه- يقول البروف شارل- ليست كافيه للتأكيد على أن موسى النبي، قد ضرب في التيه منتقلاً من ذلك الدّمر القديم..! وكانت إجابة البروفيسور على هذه الحيثية، قاطعة وهي، أن الاجابة على هذا السؤال لم يحن وقتها.. في تلك الأمسية توافد أعاجم الخرطوم، المفتونين بإنتمائهم الى حضارة النوبة العريقة، وجميعهم كان لسان حاله يؤكد، ما عليه حال صديقي حسن بركية، الذي يرى أن النوبيين أدمنوا الهجرة في البلدان من أجل تعميرها، وأنهم جاءوا الى العاصمة من أجل تصحيح المسار..! قدّم المتداخلون في تلك الليلة مقترحات لتكريم عالم الآثار الجليل شارل بونيه، بمنحه الجنسية السودانية، وتسمية شارع رئيسي باسمه، ولم ينس النوبيون في غمرة فتونهم، شكايتهم من كارثة السدود، التي تكاد تبتلع إرثهم وحضارتهم القديمة.. وآثر الأستاذ عبد الله الزبير حمد الملك، تأكيد نسبة صديقه شارل، واصفاً له بأنه (ود البيت)، وأن اسمه هو:(شارل بونيه الملِك ).. وحدد مكان لقائهما الأول قبل نصف قرن، بالساعة واليوم.. وقال البروف شارل- سبعون عاماً- محيياً ومُداعباً للحضور، بأنه مجرد (إنسان كسلان)، لكونه لم يستطع بعدُ، إنجاز كل العمل، رغم مثابرته الطويلة على الحفر طيلة 50 عاماً في حضارة كرمة..أكرم به من عالم وقور، وألف تحية، للجمعية النوبية للثقافة وإحياء التراث والتنمية، والتحية الى رابطة طلاب دنقلا.. شكراً لهم على تنظيم مثل هذه المحاضرات القيمة، في مساءات عاصمتنا الجّديبة.