ثمة معلومات توضح أن الحضارة السودانية أكثر عراقةً من رصيفتها المصرية، هي أدلة وبراهين ساقها عددٌ من الباحثين وهم قطعًا ليس بسودانيين حتى لا يُتهموا بالتحيز وإنما معظمهم من دول الغرب، فحتى المدارس الامريكية اليوم تتناول داخل أروقتها مدى عراقة حضارة السودان التي سبقت نظيرتها المصرية، ولأن السودان ولوقت قريب كانت أرضه بكراً من خلال الدراسات والبحوث لم تطلع كل هذه الحقائق إلى أرض الواقع وذلك مرده لعدم اهتمام الدولة بهذا الجانب وفقاً للمختصين.ولو ثبتت بالفعل هذه الحقائق لربما ضرب السودان تحول ضخم ليس في مجال التوثيق بل في مجال السياحة، فالسياحة الآن باتت مصدراً مهماً للعديد من الدول بيد أن منهج الإثبات العلمي في هذا الشأن يحتاج إلى مجهود أكبر يشارك فيه العديد من العلماء حتى من خارج السودان مع دعم الدولة واهتمامها بهذه الأمر «الإنتباهة» طرقت القضية واستمعت لأهل الاختصاص فمنهم من توافق رأيه مع المعلومات ومنهم من كان رأيه مخالفاً. ملامح جديدة د. أبو بكر الباشا مدير مركز البحوث والدراسات السودانية بجامعة الزعيم الأزهري قال في حديثه مع «الإنتباهة» إنه ومن خلال اطلاعه حول كل ما ذُكر عن تاريخ وادي النيل لم يجد ما يشير حتى الآن لسبق الحضارة المصرية على رصيفتها السودانية كما أن الجدل في هذا الإطار في تقديره يخالف منطق الجغرافيا، حيث عُرفت هذه الحضارة ب «حضارة وادي النيل»، ويواصل الباشا: ولربما تفصح الاستكشافات الأثرية عن ملامح جديدة لهذه الحضارة قد تضيف واقعاً حضارياً جديداً، ولكن من يستطع حالياً أن يرسم لنا الحدود الجغرافية بين مصر والسودان في ذلك العصر حتى نتمكن أن نميِّز أيهما الأسبق.. ومن جانبٍ آخر فإن الجدل حول هذا الموضوع في تقديري قد يحمل قيمة علمية ولكننا نتساءل عن القيمة السياسية بما يخدم الحاضر حالياً.. إن التباين الإدراكي بين مصر والسودان لن يسوّى بالغوص في متاهات التاريخ لأن ذلك سيجذِّر الصراع أكثر مما هو تعضيد لفرص الحاضر في التلاقي والتعاون والتكامل ولربما الوحدة بين مصر والسودان، هذا ما يحتاج إليه الحاضر، فلنترك الحقائق العلمية ذات الصلة بالأبحاث الأثرية دون أن تُوظف، وتوجيهها لخدمة الحاضر والمستقبل. بروفيسور خضر آدم عيسى أستاذ تاريخ قديم، حينما وصلنا له بجامعة الخرطوم كلية التربية على حسب موعد مسبق وجدناه على وشك دخول القاعة لأداء محاضرة، واستأذننا بأن تكون إفادته من داخل القاعة وعلى مسمع الطلاب، بل خصَّص المحاضرة للحديث عن أقدمية الحضارة السودانية ومدى عراقتها التي سبقت بها الحضارة المصرية حتى يستفيد منها الطلاب بحسب حديثه.. حيث بدأها قائلاً: «إن الآثار في أي بلد تعتبر قيمة مادية وثقافية من الدرجة الأولى، وهي ثروة قومية لن تتكرر، كما أن كل دولة تسن قوانين لحماية وتنظيم العمل بها، فقانون الآثار القديم كان يمنح البعثات الأثرية صلاحية التنقيب ويعطيها نصف الثروات، إلا أن القانون تغير الآن والذي أصبح يمنع قسمة الآثار لتبقى لصالح الدولة. السودان لم يلتفت إلى أهمية السياحة من مواقع أثرية وغيرها بعكس مصر التي تهتم بالسياحة وخصصت لها وزارة قائمة بذاتها، كما أن قربها من حوض البحر الأبيض المتوسط والعالم الخارجي جعلها محط أنظار، وجعل العديد من الرحالة الأوائل من الباحثين يجيئون إلى مصر لعمل دراسات ومشاهدات ومسوحات وتوثيق لذا تم نشر كل هذه الأشياء التي جذبت العالم نحو مصر، لكن السودان لم يجد حظاً مثل مصر بارتياد العالم له منذ زمن مبكر، ويرجع ذلك لأرضه التي لم تزل بكراً في جانب الدراسات والبحوث، والتي مردها عدم اهتمام الدولة بالآثار والذي قاد أيضاً إلى تأخير اكتشاف العديد من المواقع الأثرية منذ منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، فقط هنالك من كتب عن السودان دون أن يزوره وإنما اعتمد على الرواية الشفهية وهذا يُعتبر عملاً ناقصًا، والبعثات الأثرية بعدها قامت بأعمال بسيطة جداً، ومن أوائل العلماء الذين بدأوا العمل الأثري هو «جورج رايزنر» الذي نقب في المواقع الأثرية الرئيسية «كرمة البركل والبجراوية». تفوق السودان على مصر في الأقدمية ويذهب البروفيسور إلى أن في مصر لا توجد حضارة تُعرف بحضارة العصر الحجري القديم ولا الوسيط وهي حضارات نشأت في السودان وتعتبر بداية الحضارات في إفريقيا خاصةً بعد الاكتشافات الحديثة بجزيرة «صاي» في العصر الحجري القديم بواسطة «فرانسيس» الذي يعتقد أن هذا الموقع أقدم المواقع الأثرية في السودان وفي إفريقيا بالإضافة إلى خور أبو عنجة.. وأن بداية الثقافات في مصر ترجع إلى عهد العصر الحجري الحديث بعكس السودان الذي مرد حضارته إلى العصر الحجري القديم وهذا يدل على أن السودان تفوق على مصر في أقدمية الحضارة. ويضيف قائلاً: إن المملكة المصرية الوسطى مقابل لها حضارة كرمة التي تسمى مملكة كوش، وكانت توجد روابط بين مصر والسودان وهي تجارية تتخللها بعض العدائيات التي خلقت نوعًا من التأثيرات بين البلدين، إلى أن جاءت التأثيرات الكبرى بعد أن اكتشف المصريون نقوشًا عديدة في منطقة الشلال الثالث.. وقد اتضح من واقع الحفريات الأثرية المهمة بموقع كرمة على مرحلتين: أنه تم اكتشاف ما يُعرف ب «الدفوفة» الاولى التي تعنى بلغة النوبة «حصن» حيث اُعتُقد أن هذا المبنى الضخم ما هو إلا حصن من حصون المملكة المصرية الوسطى التي تم إنشاؤها في السودان، واعتقد الباحث أن كرمة هي مستعمرة مصرية، واكتشف بعض الصناعات المصرية في الحفريات حول «الدفوفة» كما اكتشف تمثالاً لأمير مصري اسمه «حب جيفا» لذا اُعتُقد أن هذه الدفوفة هي مقر الحاكم المصري إلا أن كل هذه الاعتقادات باءت بالفشل بعد أن أثبتت الدراسات والبحوث أن المصريين لا يُدفنون خارج بلادهم خاصة الأمراء.. وقد نقب البروفيسور «شارلي بونيه» في منطقة كرمة ، كما نقب حول «الدفوفة» واكتشف ان مدينة «كرمة القديمة» قامت حولها، وفي الجزء الجنوبي الغربي كشفت عن قصور ومبانٍ بجانب الحي الديني، وفي دراسة معمارية للدفوفة اتضح أنها ليست حصنًا وليست بمقر الحاكم المصري وإنما في الأصل هي معبد ديني ربما بُني طرازه على أساس المملكة المصرية الوسطى ومر بمراحل عديدة حتى صار بشكله الحالي.. أيضاً اكتشفت البعثة السويسرية كثيرًا من الدلائل من فخار جميل وُجد بكثرة في المدينة وفي المدافن والعديد من الصناعات الخشبية والبرونز في كرمة، وبالتالي صارت كرمة غير مستعمرة مصرية وإنما هي مدينة «كوش» الأولى وكانت نهايتها على يد الفراعنة الذين استعمروا السودان فيما بعد. أكبر تجمع هرمي في العالم ويوضح الخضر آدم عيسى أن منطقة «البجراوية» تضم أكثر من 280 هرمًا وتعتبر أكبر تجمع هرمي في العالم وأنها تفوق الأهرامات المصرية عدداً.. كما أن العديد من المدارس في أمريكا أثبتت أن الحضارة السودانية هي أصل حضارة مصر.. وكشف عن عملية سطو كبيرة لعدد كبير من القطع الأثرية حيث تمت سرقة الأهرامات الشمالية والبجراوية، حيث كان هنالك طبيب إيطالي أتى إلى الحاكم التركي بالخرطوم طلب منه إذن البحث عن الآثار ووصل إلى البجراوية ونقب تنقيبًا عشوائيًا، وهجم على الأهرامات من فوق وبطريقة عشوائية مما أدى إلى تهديم أجمل الأهرامات بأهرامات البجراوية الشمالية إلى أن وصل إلى الهرم السادس ل «أماني شخيتو» ووجد بوادر كنز وسرقه فعبر به إلى بربر ويتكون من حلى ذهبية وماس وبلاتين يُقدَّر بأموال ضخمة جداً. شارلي بونيه .. بعد التنقيب عالم الآثار السويسري «شارلي بونيه» عضو اتحاد الآثار الأوربية بباريس، يقول إنه حينما وقف على الآثار الفرعونية لاحظ أن تاريخ الفراعنة قد أشار إلى مملكة النوبة في شمال السودان مما شجعه على زيارة السودان للبحث عن اكتشاف جديد.. فتوصل إلى أن أصل الحضارة الفرعونية جاء من السودان وأن الفراعنة هم ملوك مملكة النوبة، وعندما كانت مملكة النوبة في أوج مجدها لم تخرج مصر إلى الوجود، وأن كرمة أول مدينة حضرية أُنشئت على ضفاف النيل قبل «27» قرنًا وهي مدينة الكنز المجهول والحضارة الهائلة العظيمة التي دمّرها فراعنة مصر ودفنها التاريخ لقرون طويلة بحسب شارلي الذي أضاف أن الحضارة الفرعونية في السودان سبقت الحضارة المصرية، حيث كانت هنالك مواجهات بين ممالك النوبة والمصريين، والشاهد على ذلك القلاع التي شيدها المصريون ما بين الشلال الأول والثالث، ولكن ملوك النوبة أو الفراعنة السود اجتاحوا مصر قبل 700 عام قبل ميلاد المسيح عليه السلام وسيطروا عليها وحكموها حتى أرض فلسطين، وكان ذلك إبان الاضطرابات في منطقة الدلتا المصرية ومن خلال سيادتهم على أرض مصر، ونشروا ثقافاتهم ولغتهم كل ذلك قبل وجود الفرعون «نارمر» الذي حكمت سلالته مصر من بعد وفاته، وبعد قرون من الزمان حكم مصر الفرعون «بساميتك» وسيطر على منطقة النوبة ودخل مدينة كرمة ودمر حضارة الفراعنة السود وهدم القلاع والمعابد وتماثيل الفراعنة السود وكان ذلك عام 664 قبل الميلاد. ويقول شارلي: إن حضارة وثروات السودان كانت منذ قرون طويلة مطمع المصريين.. وإن الحضارة النوبية هي أول حضارة قامت على وجه الأرض وأعرق حضارة شهدها التاريخ في مدينة كرمة حاضرة النيل وعاصمة أول مملكة في العالم.. كما يوضح أن الحضارة الفرعونية في مصر أتت بعد الحضارة النوبية في السودان وأن ملوك النوبة هم الذين نشروا تلك الحضارة من خلال حكمهم لمصر والذي امتد حتى فلسطين واستمر لقرابة ال «2500» عام. لكن وإن كانت كل الآراء السابقة توضح أسبقية الحضارة السودانية على رصيفتها المصرية فنجد هنا رأيًا مخالفاً فيما يبدو أوضحه البروفيسور عمر حاج الزاكي يقول فيه إن الحديث الذي يؤكد أن الحضارة السودانية أكثر عراقةً من المصرية غير صحيح، وحينما تكلم شارلي عن ذلك تحدث عن عراقة حضارة كرمة، والأدلة المادية توضح أن الحضارة المصرية أسبق، فحضارة وادي النيل كانت متناقمة شمال وجنوب الوادي، كما أن المصريين اخترعوا الكتابة قبلنا وحتى دياناتهم الوثنية كانت معقدة، فإذا كانت البدايات جنوبًا فالتصوير بدأ شمالاً، ويضيف أن حضارة وادي النيل شمالاً وجنوبًا «مصر والسودان» عريقة منذ العصور الحجرية الأولى وفي العصور التاريخية التي تبدأ بالألف الرابع قبل الميلاد حينما اخترع المصريون الكتابة، وتسارع التطور بعد ذلك بشكل بديع في مصر وظل التأثير والتاثر مستمرًا بين ما يُعرف بالسودان القديم ومصر القديمة، حتى الحضارة الغربية الآن ترجع بالفضل للحضارات الشرقية السابقة لها ولكنها قفزت كثيرًا بالمنتوجات المادية، وعمومًا يجب أن تكون النظرة للحضارة على أنها منتوج بشري عالمي تبدأ بعض مظاهره في مكان ما فيأخذه الآخر ويطوره، وهكذا دورات الحضارة في النشوء والتطور والانتقال من مكان لآخر. جعفر ميرغني .. صمت محكم «الإنتباهة» طرقت باب الدكتور جعفر ميرغني بمعهد حضارة السودان لما علمت أن له باعاً كبيراً في مسألة الحضارة ككل، إلا أن الدكتور رفض الحديث رفضاً باتاً إذ علل امتناعه بأن له سياسة محددة لا يمكنه تجاوزها، وهو قد درج على عدم إفادة الصحف بشكل عام إلا إذا أراد هو بحسب رأيه ، فحدث بيننا وبينه جدال طويل وكنا على أمل أن نتمكن من إقناعه إلا أنه ظل متمسكاً برأيه، وأشار الينا بأن نرجع إلى مكتبة الإذاعة السودانية حتى نجد ما نبحث عنه.. يعني بذلك البرنامج الذي يتحدث فيه اسبوعيا عن الحضارة السودانية وهي بالطبع ستكون مهمة شاقة من شأنها ان توصد باب التواصل بين الصحافة والعالم الكبير.