٭ يقول آدونيس: نعم.. هناك قوى لديها «حلول مسبقة» هم اصحاب الآيدلوجيات.. اصحاب الاسلام السياسي.. والاتجاه الآخر الماركسي او الاشتراكي، هم لديهم ايضاً «حلولٌ جاهزة».. انا بوصفي شاعراً.. اطرحُ اسئلة ولا اقدمُ اجوبة او حلولاً.. لا حول الحب او حول الفنون.. عَملُنا هو التفكر والاستبصار وليس الحلول المسبقة.. اجل، معظم البشر يميلون الى الاجابات الجاهزة من اجل الطمأنينة والطريق المفتوح الذي قد يكون مليئاً بالمصائب والهوام والضواري، كما سبقت الاشارة. ٭ في البداية كنت مع الربيع العربي وانطلاقته، لكنني لاحظت بعد قليل انه تحول باتجاه سيطرة «الجماعات الدينية»، التي تُسيّس الدين وتُحوّله الى حلول جاهزة.. تقصي الآخرين وتكفرهم.. ثم تقتلهم.. وهذا ما أخافني. ٭ ليست من العدالة المقارنة بين الثورة الايرانية والربيع العربي.. لأنها كانت ثورة ضد الامبراطور والامبراطورية (الشاه والشاهنشاهية).. طبيعي ان اؤيدها.. كانت في بداياتها «ثورة شاملة»، لم تقم بها طبقة.. بل شعب بكامله هو من قام بالثورة.. قبل ان يختطفها رجال الدين و«اهل الحوزة» الفقهاء.. ٭ في القاهرة جرى شيء مماثل، لكن تم تصحيح الربيع العربي بثورة ثانية في 30 يونيو 3102.. اما ما يحدث في بلدي (سوريا) لا يمكن مقارنته.. انها (ثورة) يقوم بها «مرتزقة» من جميع أنحاء العالم!! ٭ لستُ ضد الدين والتدين.. انا احترم المتدينين، بل ضد «مأسسة الدين»، ودخوله في تفاصيل حياة الناس اليومية فيفقد معناه وقداسته.. جميع الانقلابات التي جرت من قبل في سوريا والعراق وليبيا لم تكن دينية لكنها حكمت اناساً متدينين.. من شروط الثورة اجماع الشعب ورفض التدخل الاجنبي وان يكون لها برنامج من أجل التقدم.. الثورة الجزائرية ربما كانت في بدايتها تنطبق عليها شروط الثورة هذه. ٭ الفرد في الحياة العربية ينظر اليه ك«ثمرة في شجرة».. شجرة الطائفة او المذهب او العائلة.. الفرد المواطن الحر المستقل غير موجود.. لو أخذنا لبنان -بلده الثاني- كأفراد.. قد تكون في طليعة بلدان العالم حتى عندما نذهب الى البلدان الأخرى غير العربية.. لكن عندما نأخذ لبنان ك«مجتمع» يكون في مؤخرة العالم.. الانتماء في لبنان للجماعة الطائفية او المذهبية او الدينية اوالعائلة.. وليس للوطن كوطن. ٭ اما من يقولون بأن «مشروعي الثقافي» قد اصطدم ب«الشارع العربي».. فالشارع العربي -عندي- ليس متديناً على طريقتهم، كما يزعم بعضهم.. واذا درسنا واقع الفرد العربي بدقة.. نجده مشغول بحياته اليومية ومعاشه.. فالجماعات المتطرفة لا تمثل الشارع العربي والمواطن العربي بعامة.. الشارع العربي الذي اسقط النظام الديني و«مشروع الاخوان» هنا في القاهرة هو شارع «متدين ولكن بسماحة».. يرفض التحكم باسم الدين.. يجب الفصل بين ما هو ديني يخص الفرد -كتجربة روحية- يمكن استلهامها في العمل السياسي، من خلال تبجيل القيم والمقاصد العليا للدين- مع الفصل بوضوح بين الدين «كمقدس» والدولة «ككيان علماني» تتحكم به عوامل وعناصر ومصالح معقدة ومتجاوزة للدين الواحد والمجتمع الواحد. ٭ اقدر عبد الناصر واحبه.. لكن عبد الناصر لم يفصل بوضوح بين الدين والدولة.. اهم زعيم عربي -في نظري- خلال القرن العشرين هو الحبيب بورقيبة، الذي دافع بقوة ووضوح عن حق المرأة في الحياة والحرية. ٭ اما من يعتبرون اختياري للقب «أدونيس» والتخلي عن اسمي الرسمي، بمثابة «اغتيال لابي».. اقول ان قتل الاب في الحياة العربية صعب لان العائلة العربية مترابطة.. صحيح قتلت ابي -معنوياً- برغم حبي له.. فعلت ذلك حتى اشق طريقي الخاص، اذا كان ذلك يعتبر «قتلاً».. وهذا ما عبرت عنه في قصيدتي «الطفل»: «ذلك الطفل الذي كنته.. اتاني مرة وجهاً غريباً.. شيئاً لم يقل شيئاً.. وافترقنا.. ايها الطفل الذي كنته تقدم».. فالانسان هو «نفسه وغيره» في وقت واحد.. هو طفولته الاولى وهو الرجل الحاضر.. هل انا في هذه اللحظة -التي اتكلم فيها- هو من يتكلم.. ام أن ذاكرة الطفل الذي كنته هي التي تتكلم؟! ٭ الناس يتكلمون عن التراث كثيراً لأنهم يأخذونه ك«هُوية».. ولكن اذا سألت اين تتجلى هذه الهوية؟ هل عند المتنبي، ابي تمام، ابي فراس، ام ابي العلاء المعري.. الهوية عند العرب كأنها شيء موجود محسوس، كالكرة تتدحرج من بداية التاريخ وتتواصل.. الانسان يبتكر هويته الخاصة.. الهوية لا تأتينا من الماضي.. ما هي علاقتنا بامرء القيس مثلاً.. وهذا لا اعني به التخلي عن التراث، لكنني لا اقبل ان يكون البشر نُسخاً مكررة من بعضها البعض. ٭ انا لا اكتب للقراء.. الشعر ليس الا رسالة تُرسل لقاريء مجهول.. في القاعة بالامس كان كل شخص من الحضور له ذوقه الخاص.. كل شخص مختلف عن الاخر.. انا اكتب اولاً لاكتشف نفسي واعرفها اكثر.. والقصيدة اعتبرها مرسلة لقاريء مجهول فاذا حصل اللقاء.. مرحباً وحباً وكرامة.. انا لا انتمي للشعراء الذين يكتبون للجمهور ويُحوّلون الشعر الى اداة سياسية.. ولا اعتبر مثل ذلك شعراً.. الشعر، نعم يغير، ولكن بطريقته الخاصة.. الشاعر العظيم لم يكن دائماً جماهيرياً.. العالم كله كان ضد المتنبي.. والشاعر العظيم يبني جمهوره شيئاً فشيئاً.. برغم اني ضد كلمة «الجمهور» ذاتها، لانها توحي بروح «القطيع».. هناك قراء كبار لشعر أدونيس، هم اصدقائي واحبائي وافخر بهم.. قاريء الشعر الحقيقي يجب ان يكون في مستوى الشاعر.. احب ان ارى شعراء ونقاد ضدي، ولكن يخلقون عوالمهم الخاصة.. احب صلاح عبد الصبور -مثلاً- لانه الشاعر المصري الاول الذي احدث قطيعة مع «لغة احمد شوقي». ٭ التقيت طه حسين مرة وحيدة واخيرة.. وبرغم انه كان كفيفاً، كان وجهه مشعاً، كان جميلاً وطويلاً ونحيلاً.. لديه ذاكرة سحرتني.. قرأ لي قصيدة بالفرنسية لشاعر كبير.. وكنت مسحوراً بثقافته وكتابته، خصوصاً كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وعدت الى لبنان لأكتب عنه مقالاً بعنوان «مُنمّنَمة عربية في تمثال يوناني».. فطه حسين من كبار الذين رسموا درب التحرر في الثقافة العربية.. تأثير الثقافة والأدب، ليس فورياً كتأثير الرصاصة تنطلق لتصيب.. تأثيرهما كالماء والهواء.. بطيء ولكنه فعال وخلاق، وتأثير طه حسين مستمر باتجاه المستقبل.. اما جائزة نوبل فلم اهتم بها ولم ارشح نفسي لها ولم افكر فيها ولا تعنيني في شيء. ٭ وبعد.. هذا هو ادونيس.. شاعرٌ عملاق وباحثٌ في التراث لا يشق له غبار.. لكنه لأكثر من سبب، ربما النشأة أو البيئة أراه متعالياً على الجمهور، ولا يعترف بأن للشعر والادب دورٌ في التعبئة والتغيير بطيئاً كان أو ثورياً.. وهو تعالٍ يخصم منه ولا يضيف اليه.. ويُضيَّق وسع الأبجدية وفعلها، مثلما قال هو يوماً في إحدى قصائده الموسومة «الوقت»: حاضناً سنبلة الوقت، ورأسي برج نار ما الدم الضارب في الرمل، وما هذا الافول مِزَقُ التاريخ في حنجرتي وعلى وجهي أمارات الضحية ما أمرَّ اللغة الآن وما أضيق باب الابجدية.