من أمثالنا العامية مثل جريء وصريح العبارة.. ولكنه مع الأسف يعبر بألفاظ لا يجرؤ المرء على إيرادها مهما كان ملزماً أن يكون دقيقاً وحريصاً في إيراد التراث.. لذا فأنا مضطر هنا أن أهذب كلماته بحيث لا يختل المعنى المراد.. ولا أجرح سمع سامع أو نظر قاريء والمثل مع التهذيب والتلميع من جانبنا يقول «هين الراجل.. وما تهين كلامو».. ويستعمل غالباً عندما يتحدث إليك أحدهم بكلام لا يعجبك.. وبدلاً من أن تناقشه أو تحاوره أو تخطئه أو تصوبه.. تتجاهله ولا ترد على كلامه الذي لا يسوي عندك شيئاً.. وأنك أنت فوق مستوى الرد عليه.. أو الحوار معه تمثلاً بقول الشاعر «يخاطبني السفيه بكل قبح... وأكره أن أكون له مجيبا... يزيد سفاهة وأزيد حلماً... كعود زاده الإحراق طيبا»، وما أن يبتعد عنك حتى «يأتيك بالأخبار من لم تزود» فهو بعد أن أنزاح وجهك عنه وجد متنفساً ليقول ما حبسه بوجودك.. فالعلة إذاً كانت فيك أنت.. وهناك حكمة تقول «أنتقد القول، ولكن احترم القائل.. فإن مهمتك أن تقضي على المرض.. لا على المريض».. فالمرض هو ما يقوله الإنسان إن كان كذباً أو تلفيقاً أو تجريحاً للغير أو عدواناً على حق.. وهذا الذي تسعى أنت بكل علمك.. وذكائك.. وسعة صدرك.. بل بحلمك وعطفك على المريض لإزالة المرض عنه.. لا بإطلاق رصاصة الرحمة على مريض كان بإمكانك معالجته من مرضه بما تملك من علم ومعرفة.. بعض الناس منحهم الله هبة العلم وبعضهم هبة المال وبعضهم سعة الصدر وهي من مكارم الأخلاق.. قال الشاعر: «فالناس هذا حظه مال، وذا علم وذاك مكارم الأخلاق» وحسن الإصغاء والتجاوب مع المتحدث حتى وإن كنت تختلف معه - أمر ضروري يوصلك إلى تحويله إلى جانبك بالحكمة والموعظة الحسنة التي أمرنا الله أن نعمل بها في الدعوة إلى سبيله.. دعك عن أمور الحياة الدنيا التي لا تسوي شيئاً في أوائل العام الدراسي 1960م نقلت إلى جوبا.. زودني العم المرحوم بإذن الله.. محمد الحسن ساكتابي من أعيان مدينة بربر.. بخطاب توصية إلى الأستاذ سر الختم الخليفة عليه رحمة الله - وكان مساعداً لمدير وزارة التربية للمديريات.. استقبلني كأني ند له... عرفت الرجل فيما بعد.. أجمل ما كان يتصف به أنه كان مستمعاً جيداً.. يريح المعلمين وخصوصاً الجنوبيين منهم.. يأتي أحدهم بقضيته بعد أن تكون الأبواب قد أوصدت أمامه.. ويكون هو ملماً بها ولكنه يُصغي إليه كأنه يسمعها منه لأول مرة.. وبذلك يكون المعلم قد وجد من يستمع إليه أخيراً.. فيخرج راضياً قانعاً بما وجد من حل ولو كان جزئياً.. لذا فقد كان موضع احترام وتقدير واطمئنان من كل المعلمين الذين عملوا معه.. إلى جانب أنه كان متواضعاً، طيب الحديث كثير الدعابة معهم.. كان يطلق عليَّ «شباب بربر» حتى بعد تخليه عن رئاسة الحكومة لقيته مرة فلم ينسَ أن يداعبي بها. كنّا ونحن صغار نسمع من كبارنا مثلاً صرنا نتعامل به فيما بيننا يقول: «الداير تهري.. أسكت خلِّي» كثيراً ما كنا نتمثل به إذا شتمنا زميل أو تطاول علينا.. ومن ضروب «الهري» أذكر أننا عندما كنا نسافر بالباخرة من كوستي إلى جوبا - رحلة خمسة عشر يوماً وبرغم المشاهد على ضفاف النيل .. والمناطق التي نمر بها.. يضيق الصدر ليس من جانب الركاب فحسب.. بل حتى من العاملين الذين اعتادوا على هذه الرحلة.. ومن ذلك أننا سمعنا مرة هياجاً وهرجاً - وكان هذا في حد ذاته يمثل نوعاً من التغيير.. فتطلع المسافرون فإذا بمهندس «الوابور» يتشاجر مع مشغل الماكينة.. وخرج كبير الريسين من غرفته فهرع المهندس يشكو إليه عصيان المشغل لتعليماته في مرارة وغضب.. ولكن كبير الريسين بعد أن أفرغ الرجل ثورته.. لم يرد عليه.. بل رفع رأسه.. ومد يده ليحرك طاقيته من الخلف لتنزل إلى نصف جبينه «حدرها» كما يقولون.. ولم ينبث ببنت شفة.. ما زلت أذكر تضاؤل المهندس.. وتحركه إلى غرفته في أقل من نصف حجمه.. وقد أدرك المشاهدون أن «الريس» كان معضداً للشغل.. مشهد عمره أكثر من خمسين عاماً ماثل أمام عيني ببشاعته.. ومن الناس من يحسن إليك ويتفضل عليك حتى تحس أنك صرت له عبداً ولكنه يمحو ذلك في طرفة عين بتصرف لم يكن في حسبانك.. والطبيب النفساني أو أي طبيب لولا صبره وإصغاؤه إلى شكوى المريض لما عرف ما يعاني منه.. والقاضي لولا إصغاؤه للجاني والمجني عليه وحياديته وتعامله مع البينات والشهود والدراسة المتأنية والتحليل ومناقشة الجاني والمجني عليه في حد سواء.. لما استطاع إصدار حكم.. قد يكون انطباعه الخاص - فهو بشر - غير ما يقضي به نتيجة للبينات والأدلة التي هو محكوم بها.. فمناقشة الإنسان لأخيه الإنسان عامل مهم لتسيير العلاقات الإنسانية.. حيث يشعر كل منهما بقيمته كإنسان.. ناقش أخاك لتقضي على المرض لا على المريض.