تقوم التسوية السياسية للأزمة الوطنية الشاملة على أسس متعارف عليها دولياً، ونحن لسنا أول دولة تواجه ضرورة الوصول إلى توافق يرضي جميع الأطراف، بعد أن وصلت الأوضاع إلى مايُعرف بتوازن القوى السياسية والعسكرية القلق، والذي يفضي إلى أحد احتمالين لاثالث لهما، أما الإفناء المتبادل ، أو التنادي إلى تسوية سياسية شاملة يتراضى فيها الجميع على معايير واضحة للتنافس السياسي وقاعدة الحكم من حيث قوانينه وهياكله والعلاقات التي تربط مستوياته ببعضها البعض، فالإطار العام الذي يضمن تنفيذ ورعاية كل ماسبق ذكره هو استعادة الديمقراطية كاملة غير منقوصة وفق المعايير المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الانسان، وهذا الإطار العام وإن كان قد إرتبط تاريخياً بالقوى العلمانية بشقيها الليبرالي واليساري في مواجهة المفاهيم غير المعاصرة التي تؤسس لنظام الحكم، وقد أضرت أيما ضرر بالتعدد الشامل في بلادنا وأوصلتنا إلى مانحن فيه الآن ، إلا أن الإطار المشار إليه لا يمثل برناج للقوى المشار إليها، وقد ارتبط بها لأنها تبنته حين تنكر له الآخرون من الذين لايوفر شرطاً موضوعياً لانتاج سلطتهم واعادة انتاجها والتي تتطلب شرطاً آخر بحكم طبيعتها المعادية للحرية والعدالة وتحتاج بهذه الكيفية الى قدر كبير من التمويه والتغطية ، فوجدت في المفاهيم المغلوطة عن الدين -التي نشرها المماليك والأتراك - خير دثار لأهدافها الحقيقية التي لايمكن الدفاع عنها بشكل واضح ومكشوف ، وقد أبقت الاوضاع على ماهي عليها بالخداع حيناً وبالعنف أحياناً كثيرة ، لكنها لم تستطيع ان تسحب السودان بعيداً عن موقعه في قلب العصر وداخل المنطقة المدارية بتعددها الشامل وبحقوق الجماعات المختلفة المدنية السياسية والاقتصادية الاجتماعية الثقافية ، لتعود المعادلة السياسية الى ماكانت عليه حين تفجرت الاوضاع العامة غضةً طرية على يد ثوار أكتوبر ، وعمدت القوى القديمة إلى أسلحتها الصدئة لتسد الأفق آمام القوى الحية ، فاين المفر؟ لابد من العودة الى ماكنا عليه من قبل، والاعتراف بأننا لم نتقدم خطوة إلى الأمام، وإن كنا قد تراجعنا كثيراً حتى أشرفنا على الهلاك دون أن تبدي واحدة من القوى السياسية خاصة تلك التي تطالب بحلول للأزمة الوطنية مستمدة من روح العصر رغبتها في حزم حقائبها ومغادرة السودان من غير التقليل من شان موجات الهجرة غير المسبوقة في تاريخ السودان . في هذا الوقت يتزايد التدخل الدولي ، ومن دون أن ندير ظهرنا للمصالح والأطماع الدولية في بلادنا لكن يجب أن لانغفل حقيقة أننا أصبحنا جزءً من العالم نتحاكم معه إلى معايير مشتركة عابرة للاثنيات والثقافات والأديان ، كما أننا جزء من المنظومة الدولية وموقعون في الوقت نفسه على كل المواثيق الدولية، وأعضاء في المنظمات التي ترعى تلك الاتفاقيات، ولانستطيع أن لا نفي بالتزاماتنا تلك عن طريق الفهلوة والغش ، كما أننا لم نستطيع رغم كل الزعيق أن نوسس نظاماً قيمياً محترماً يمكننا من الإنفلات من فلك المنظومة القيمية الدولية، وكل ماقيل في هذا الصدد مخجل ولايصمد للنقد الموضوعي، هذا فضلاً عن نتائجه الكارثية علينا نحن أنفسنا قبل الآخرين .