خلال توقف العروسة عن الصدور سبعة عشر يوماً، صادف آخر الإسبوع من شهرنا الجاري، مرور الذكرى السابعة لرحيل الفنان عثمان حسين، أبرز إهرامات الفنون، وأحد (الشامات) البارزة في جبين الأغنية، الذي رفد سوح الإبداع بعطائه الوافر بعدد من الأغنيات التي كانت وماتزال، عنواناً لكل إبداع جميل، كانت بداياته على غير ما إعتاد به الآخرون، دقة في اللحن، وبراعة في الأداء، وحصافة في التناول، بدت عليه منذ سنيه الأولى. كان فنان المفردة الجميلة، صاحب هدف ومشروع غنائي معروف، تأتي أغنياته معبرة عن أحوال السامعين، من الذين جرفتهم تيارات الشجن، وتنازعتهم تباريح الهوى، سما بفنه فوق الصغائر، محلقاً بأجنحة الجمال في عوالم الإشراق والبهاء، تعود جذوره الأولى الى منطقة (مقاشى) بضاحية كريمة، رغم إنه بارح ربعها، في سنواته الباكرة وهو طفل لم يشب عن الطوق، أقامت أسرته في كنف عائلها حسين محمد التوم،الذي حمل معه الى الخرطوم، إرث أجداده الترابلة، في فلحة الأرض، وإتقان الزراعة، إتخذ من ديم التعايشة مقاماً لأسرته، بدأ عثمان بالخلوة ثم الإبتدائية التي لم يطب له فيها المقام، لكرهه الشديد لمادة الرياضيات، إحتوته ملامح الموهبة وعنفوانها، بزاوية الخليفة عبد الجبار، ترديداً لاهازيج ومدائح الطريقة الختمية، التي كانت تنتمي لها أسرته، أراد له والده حافظ القرآن، أن يسلك دربه ليتخرج في المعهد العلمي شيخاً يعطر المجالس بدروس الفقه والتفسير، لكن ساقته الأقدار الى منحى آخر، ليزرع الفرحة ويشتل الأمل في النفوس المجدبة، حذق (ابوعفان) العود وتعلم أبجدياته تلميذاً لأستاذه يحيى إبراهيم زهر باشا، محاكياً إياه في طريقة عزفه بالشمال، سرعان ما تحول بعون أصدقائه للضفة الأخرى عازفاً للعود بيمناه، استعان به مطرب الجماهير عبد الحميد يوسف، عازفاً للعود بديلاً للعازف أحمد عثمان، كثير التسفار طبقاً لمهنته. جاء دخوله للإذاعة، بإيعاز من شقيقه الأكبر طه حسين، الذي وقف بنفسه على مقدرات عثمان، كان طه حسين فناناً لايشق له غبار في أغنيات الحقيبة، مع زميله محمد عبد السلام، كان عثمان يرافقهما في خانة (الشيال).. قدم طه شقيقه بثقة لمدير الإذاعه الذي كان يبحث عن أصوات جديدةة فبدأ مشواره في الإذاعة بعيد منتصف الأربعينات بقليل، استطاع ابوعفان أن يثبت أقدامه ويحصد إعجاب المستمعين، بتقديمه سلسلة من الأغنيات التي تحدثت عن نفسها قبل أن يتحدث عنها عثمان. خلال مسعاه الطويل، كان عثمان نموذجاً مشرفاً في كل شيء، فنه، خلقه، حرصه، تعامله، اهتمامه، وقدرته المتناهيه في صناعة الألحان، وخير تأكيد لذلك شهادة الموسيقار المصري عمار الشريعي في حقه، عندما سمعه في محراب النيل للتجاني يوسف بشير، كانت أول أغنياته التي حملها موج الأثير (حارم وصلي مالك) للشاعر عتيق، ثم تدفق إبداعه مع عدد آخر منهم قرشي محمدحسن، حسين بازرعة، السر دوليب، الجنرال عوض أحمد خليفه، محمد يوسف موسى، محجوب سراج، حسين عثمان منصور، صلاح أحمد، جلال الدين محمود، عبد الرحمن البلك، على شبيكه، إسماعيل حسن، التنقارى، الجيلى عبد المنعم، محمد سعد دياب، حميدة أبو عشر، فضل الله محمد، مصطفى سند، محمد الطيب عربى، الفيتوري، صلاح أحمد إبراهيم، وغيرهم من شركاء رحلته المميزه، كان له أسلوب متقدم في التلحين، والتأليف الموسيقى، شهد به أهل الدراية والإختصاص في علوم الموسيقى، امتاز بالتنوع والطفره في الألحان، لم تأتِ أغنياته الطويلة والخفيفة متشابهة أو على نسق أو طريقة واحدة، كان يخضعها لمقاييس دقيقة لضبط الجودة بالتعديل والحذف والإضافة.. كان عثمان حسين يرحمه الله، شغوفاً بالقراءة، كلفاً بالإلمام والمعرفة، يواظب على إرتياد الندوات ومنابر الفكر، عضواً في الندوة الأدبية، ورفيقاً لصاحبها عبد الله حامد الأمين، وكان مشاركاً في ندوة صحيفة الراي العام التي كان يؤمها نفر من المثقفين منهم، إسماعيل وعبد الحليم العتباني ، د. إبراهيم أنيس، حسن نجيلة، الفاتح التيجاني، ميخائيل بخيت، وكانت تعقد بمنزل آدم سابل بشمبات. الحديث عن فنان في قامة الفراش ،لا تسعه مثل هذه المساحة المحدودة، الرجل واسع القدرات، متعدد المواهب، من أي ناحية أتيته، يتدفق تفرداً وألقاً وإبهاراً، نورد هذه السطور في ذكراه السابعة، ومازالت تحاصرنا تساؤلات العشاق والمحبين، الذين اعتادوا منذ رحيله، أن يحيوا مع منظمته الثقافيه ذكراه عبر محفل مفتوح في كل عام، لكن المنظمة التي ماتت وهي واقفه، تقاصرت خطواتها منذ عامين، فلم يفتح الله عليها بحفل واحد، بحجة الكلفة المالية لإحياء ذكرى الفراش.. أنعى اليكم أيها الأحبة منظمة عثمان حسين، وأنا عضو فيها، فقد لقيت حتفها، وأصبحت في عداد الأموات، عليها وعلى صاحبها، تتنزل سحائب الرحمة والرضوان منظمة عثمان حسين تحتاج لميلاد جديد، لتطلع بمهامها لجمع تراثه وصونه من أيدي العابثين، آخرهم كان طه سليمان، الذي قدم (لا تسلنى) بصورة شائهة في برنامج أغاني وأغاني، أداها بطريقة لم نألفها ولم نشهدها عند عثمان، فجلب (الضرس) على نفسه السخط وغضب (العثمانيين) فلم يكن موفقاً على الإطلاق عند تناوله الأغنية الراسخة، صحيح أن الفراش صاحب مدرسة في اللحن والاداء إنتشر تلاميذها في الأصقاع، للأسف لم يكن طه سليمان منهم، أو قريباً من أسلوب الأستاذ الخالد، فقد جامله الأستاذ السر قدور وخلع عليه عبارات التقريظ خوفاً من إحراجه، أبعدوا ياهؤلاء عن ترديد درر العملاق، فهى أكبر من مقاس بعضكم بكثير. رحم الله البلبل الشادي عثمان حسين، وبرحيله لبست الخرطوم أثواب الحداد، بعد أن سكت هزارها، ورحل كنارها، وذهبت بشاشتها، وإنطفأ سراجها المنير، اللهم لاتعذبه، فلا حاجة لك بعذابه يا أكرم الأكرمين..