حنجرةُ المغني العارفُ بفنه، لا تشيخ.. والمغني العارف، يعرفُ كيف يوظف صوته حين تصابُ حنجرته، في أواخر العمر بآلام المفاصل، وآلام عضم الظهر، والتكلس في الركبتين، ونوبات السعال الليلي، وفقدان شيئا، بل أشياء من الذاكرة، وتلك كلها من أمراض الجسد حين يشيخُ، ويروحُ.. يروحُ يتوكأ بكل إيمان العجائز إلى حافة القبر! كان ذلك في بالي، وأنا أفاجئ المغني السوداني الشهير محمد وردي، بسؤال عما إذا كان لا يزال قادرا على أداء أغنيته الصعبة جدا « وردة صبية».. الأغنية التي يمد فيها من شأو صوته مرات بنوع من الشجن الغريب، ومرات يرقصُ به باليه، ومرات ينظرُ به في أفق بعيد.. حالم! كان وردي، يومذاك، يغني بكلية مزروعة، وجسده يتضخم شيئا فشيئا بالكوروتزون، غير أنه كان لا يزالُ يرنو بعينيه إلى « جمال الدنيا » وهو في منتصف السبعين! لم يفاجئني سؤاله : - " ليه مابقدر؟ لم، أجب... وأنا الذي كنتُ أعرفُ فيه تمام القدرة على الغناء، في كل مقامات العمر. لم يقل هو شيئا آخر. فقط أمسك العود، شال صدره إلى فوق، وراح.. راح يغني: ... و أحبك لا قدر مكتوب ولا دمعا سقي المنديل و أنادي عليك.. ملاذا من شتاء الايام، و بردا في الحياة، و سلام.. و في شدة هجير وزحام، جزيرة حنينة بين نهرين حنان، ألقاك.. عليك اتلم، و هودج في صحارى الهم، عالي نخيلها.. عليك اتلم! تنفستُ يومذاك، كما لو أن الهواء الذي أتنفسه، لم يلوثه أي فراق في الدنيا، وأنا أنظرُ إلى صوت وردي وهو في منتصف السبعين، نظرتي إلى وردة صبية، تتفتح سبلة سبلة.. بتلة بتلة، وأريجها يبلل ريقه بقطرات من الندى، و... يسافر، تاركا في المكان كله، جوقة من العبير! كنتُ لا أزال أتنفسُ هواء نقيا، حين جاءني صوت وردي: « شوف.. العمر- زى الحنجرة- مقامات، والمغني العارف هو الذي يستطيع أن يشايل حنجرته مع أي مقام من مقامات العمر» ! تذكرتُ البارحة وردي، والحوار.. والهواء الذي لم يكن ملوثا بالفراق، وورتي تلك التي كانت صبية، وأنا أقرأ، في خبر عن المغنية اليونانية صاحبة النظارة السوداء- نانا موسكوري- التي عادت – قبل سنوات- تغني بعذوبة أحلام صبية، وهى في الثمانين، بعد أن كانت قد اعتزلت الغناء قبل سنوات، بسبب الشيخوخة. قالت « نانا» لجمهورها: ودعتكم في مسرح أوديون العالمي الغنائي قبل سنوات. كنت أشعر أنني شختُ، وأن حنجرتي شاخت.. الآن أقول: شختُ؟ أىّ نعم.. لكن حنجرتي لا.. لا ياصحاب! «نانا» جابت العواصم التي يهدهدها الغناء إلى أن تنوم، بحنجرة في الثمانين.. حنجرة لا تعرف الشيخوخة، على الإطلاق! أيها الناس: « نانا» تعرف تماما- مثل وردي- كيف تشيلُ صوتها، وتشايله مع مقامات السنين.. وكيف ( تخته) وكل الزمان يسترقُ السمع!