كان عمر ينادي زوجته يابت الأكرمين.. كان يكرمها ويكرم أهلها.. في إحدى الليالي كان سيدنا عمر بن الخطاب يدور حول المدينة ليتفقد أحوال الرعية.. فرأى من البعد خيمة لم يرها من قبل.. فأقبل نحوها متسائلاً ما خبرها فسمع أنيناً يصدر من داخل الخيمة فازداد همه.. ثم نادى بلطف من هناك فخرج من داخل الخيمة رجل.. فقال له أمير المؤمنين من أين أنت يارجل.. فقال له.. أنا رجل من إحدى قرى البادية وقد أصابتنا الحاجة فجئت أنا وأهلي نطلب رفد عمر.. وقد علمنا أن عمر يرفد ويرعى الرعية فقال عمر وما هذا الأنين؟.. قال: هذه زوجتي تتوجع من ألم الولادة فقال عمر: وهل عندكم من يتولى رعايتها وتوليدها.. قال الرجل: لا.. قال عمر: انتظرني أني سآتي اليك بالنفقة ومن يولدها.. وذهب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بيته وفيه زوجته سيدتنا أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب .. فنادى يا ابنة الأكرمين.. هل لك في خير ساقه الله إليك.. فقالت وماذاك.. فروى لها المشهد.. فقالت له: هل تريدني أن أتولى ذلك بنفسي.. فقال قومي يا ابنة الأكرمين ما تحتاجه المرأة للولادة.. وقام هو يأخذ طعام ولوازم الطبخ وحمله على رأسه وذهبا سوياً. وصلا إلى الخيمة ودخلت أم كلثوم لتتولى عملية الولادة.. التوليد وجلس سيدنا عمر مع الرجل خارج الخيمة ليعد لهم الطعام وكان ينضج على النار حتى تخل الدخان لحيته، وأم كلثوم تنادي من داخل الخيمة يا أمير المؤمنين أخبر الرجل أن الله قد أكرمه بولد وأن زوجته بخير .. وعندما سمع الرجل كلمة يا أمير المؤمنين من لسان أم كلثوم تراجع مندهشاً فلم يكن يعلم أن هذا هو عمر بن الخطاب فضحك سيدنا عمر.. وقال له: أقرب.. أقرب نعم أنا عمر بن الخطاب والتي ولدت زوجتك هي أم كلثوم أبنة علي بن أبي طالب .. فخر الرجل باكياً بشدة.. وهو يقول: آل بيت النبوة يولدون زوجتي وأمير المؤمنين يطبخ لنا.. فقال له سيدنا عمر خذ هذا وسأتيك بالنفقة ما بقيت عندنا في المدينة. أقول أخذني هذا السيناريو العدلي في أقصى درجاته وأبكاني بحرقة وتذكرته جيداً بعد أن استوقفني حوار قبل أيام قلائل... داخل ناقلة ركاب بين رجلين في عقدهم السادس من العمر.. كانا يجلسان أمامي- أي في المعقد الأمامي- وقد تلاحظ لي أن واحداً منهم عيناه تقطر دمعاً يعالجه بمسحة من ذاك المنديل القابض عليه ويتنهد، ثم التفت لصاحبه قائلاً: الظلم ظلمات فرد عليه.. نعم .. نعم.. هو في منصف العدل يسمع دبيب النمل في الليلة الظلماء وفوق الصخرة الصماء ثم أردف قائلاً: وين تروح من مالك الروح.. إن ظلمتنا من مقعدك باكر تفوت من موقعك.. وين تروح من الملك الجبار.. وأردفه بهمس لم أسمعه وبعدها عم صمت.. وقد تلاحظ لي في يديهم مظاريف تحاشيت أن أطلع عليها.. وفي حقي أكون قد تجاوزت أصول الشرع والمبادئ.. ولكن الاستماع فرض علي.. فنزلت في محطتي.. وأنا أحس بالمهم.. وهل هذا الظلم قضائياً.. أو أمر أسري أو عملي.. وفي تلك اللحظة دارت في مخيتلي مواقف قضائية ناصعة في صفحاتها.. فيها كثير من الحكم والصبر والذكاء والمواقف المشار اليها بالإعتدال.. وقد استبعدت إنها حالة في فصل قضائي والله أعلم. أقول تذكرت مواقف للقضاء السوداني منذ الثلاثينيات في القرن الماضي أو ما بعد ذلك.. فقد روى لي والدي.. رحمه الله.. عندما كان في بداياته الشبابية والعملية قد عمل كاتب محكمة لناظر عموم منطقة الجعليين الناظر أبو القاسم التهامي.. وقد أكد لي والدي أن هذا الرجل يتميز بذكاء خارق وعمق قضائي عادل.. فقد كان يستمع لكل ما يدور في المحكمة ثم يلتفت إلي قائلاً أكتب ما قاله الشاكي بلسانه ولا ينقصه حرفاً.. وأكتب ما قاله المتهم ولا ينقصه وإلى ما يجري من أقوال فيخرج قراره صائباً دون مظلمة. أقول.. هكذا تشبعت جيداً وبانطباع متميز عن القضاء السوداني منذ تلك الرواية، ولم يخلِ تفكير بأن اخد من تعمقي في شخصية القضاء السوداني.. فالكفاءات التي يمتلكها قضاة السودان ظلوا على الدوام في موضع الاشادة والتقدير.. بدليل أنهم مرغوبون في كثير من الدول خاصة دول الخليج ومنذ عقود خلت، مما يؤكد لي أن تلك الحالة التي عايشتها في تلك الناقلة أن نكون مظلمة من قرار قضائي.. لثقتي في كفاءة القضاء السوداني. قال لي صديقي نجاح القضاء السوداني عبر تاريخه الطويل جاء نتاج مجتمع متفتح في كل مناحي الحياة عبر موسوعة المجتمع السوداني صاحب القبائل المتعددة وكل راغب في أن يضع بصمته بأصالة الزمان والمكان. حقاً نحن أمة وسطاً ذو اعتدال في المعايير الأخلاقية والتربوية نؤمن على الأخلاقيات ونثمن عليها بقضاء عادل عبر تاريخ حافل بالانجازات.. فدائماً المجتمع القضائي في سوداننا أكثر انفتاحاً.. وأكثر إشراقات ولم اسمع البتة عن قاضٍ له خصومات أو عدائيات.. بل هو دائماً في موقف الإشادة.. فالتحية للقضاء بهذا التميز. عضو إتحاد الصحفيين السودانيين