٭ فوجئت بدخول الفنان محمد وردي يزورني بعد طول غياب في منزلي بإمارة الشارقة فسالمني معانقاً وأخذ يذكرني بأيام لنا مع عصافير الخريف وهي تحلق شرقاً بحثاً عن أعشاشها في مدينة كسلا ، وفجأة طلب مني أن اسمعه الجديد من أغنياتي فأهديته أغنية «أقابلك» وأثناء خروجه من المنزل سأل ابني الصغير المعتز هل تعرفني ؟ فرد عليه بكل براءة الأطفال «أنت منو أنا ما عارف» .. فنظر إليّ وهو يقول إن الطفل السوداني الذي لا يعرف اسم وردي لا يمكن أن يكون سودانياً ثم مضى في سبيله. ٭ كان الراحل عمر الحاج موسى وزير الاعلام السابق يوقع على كثير من أوراقه بالأقلام ذات الحبر الأخضر، و كان الراحل العملاق أبو صلاح لا يكتب أشعاره إلا بالقلم «الكوبيا»، وكان سند يكتب القصيدة عشرات المرات ثم يدفع بها إلى البحر القديم .. أما كجراي فقد كان يسافر إلى قريته الصغيرة «عواض» ثم يعود منها بقصيدة جديدة .. أما الراحل محمد جعفر عثمان فقد كان يكتب القصائد الحزينة في الأعياد .. رحل جميع هؤلاء العباقرة .. ولم يتركوا لنا من بعدهم إلا البكاء على الأضرحة. ٭ هل تعلمون أن عيون زرقاء «توتيل» لم تعد ترى التاكا نهاراً وهي على بعد أمتار منها، بعد أن كانت تراها ليلاً وهي على بعد آلاف من الأمتار .. ترى ما الذي أصاب عيون زرقاء «توتيل».. ما الذي حولهما إلى مجرد عينين ذبل فيهما بريق البصر والبصيرة.. فغدت لا تفرق بين اللؤلؤة الأصل ولؤلؤة الرمال.. أصبح أطفال المدينة يرمونها بالحجارة وهي تتوكأ على «عكازة» تهش بها على ضباب الأرصفة. ٭ هاتفني أحد أشقائي ليلاً وأنا في دولة الإمارات ليقول لي «البركة فيك» توفيت الوالدة.. جلست لمدة تزيد عن الساعة وأنا أذكر كلماتها قائلة لقد طال اغترابك عني .. أما آن لهذا الاغتراب أن يترجل .. وأكدت لي أنها تشتهي أن تضم أطفالي إلى أحضانها .. لم تكن تعلم أنني أحارب في غربة لها أنياب حتى تسمح لي بعودة إلى أيامها البيضاء، ولكن دون جدوى.. وأنا حين اتخيّل منظرها وهي تحتضر تبحث عني بين الموجودين فلا ترى لي أثراً .. فلا نامت أعين المغتربين. ٭ قال الرسام السيرالي المعروف بيكاسو إن الخطوط المتعارضة التي نراها على جلود الفهود فيها من التناغم والتناسق ما يبهر عباقرة الفن في العالم.. وقال إن كثيراً من الناس ينظرون إليها باعتبار أنها فوضى من الخطوط غير المتجانسة .. إلا أن العباقرة من الرسامين لا يخفى عليهم أن هذه الفوضى التي يرونها ما هي إلا أنغام متجانسة متناغمة لا يقدر على صنعها إلا خالق عظيم.