السودانيون يعرفون بشكل لا يقبل القسمة أربعة من رموز قبيلة الدينكا، ذاع صيتهم في هذا العصر وصاروا أسماء لامعة في المعترك السياسي وقضايا الوطن والصراع بين الشمال والجنوب. وهم مؤسس الحركة الشعبية القائد الراحل الدكتور جون قرنق، ومولانا أبيل ألير حكيم الجنوبيين المخضرم ونائب رئيس الجمهورية الأسبق، والفريق سلفا كير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس الحركة الشعبية، والأستاذ بونا ملوال رئيس حزب المنبر الديموقراطي ومستشار رئيس الجمهورية. من ثنايا تلك المعطيات هناك لوحة متشابكة من التناقضات والعجائب والزوايا المدهشة، على بساط التحولات والتغيرات الفجائية في شكل العلاقة بين اثنين من قيادات الدينكا البارزين في الملف الجنوبي، هما الفريق سلفا كير وبونا ملوال، من حالات الوشائج القوية والتقارب الوجداني إلى الاتجاه المعاكس على ضفة العداء السافر والخصومة الملتهبة. وبقدر ما كان حبل الصداقة والمحبة يربط بين سلفا كير وبونا ملوال في الماضي، فإن نار البغضاء قد التهمت الآن ذكريات وحميمية الأيام الخوالي!! لقد كان المشهد الأول الذي يصور متانة وصلابة العلاقة بين الرجلين على مسرح أدغال الجنوب قبيل توقيع اتفاقية نيفاشا، فقد كان بونا ملوال يومذاك يكيل الهجوم العنيف ضد سياسات الدكتور جون قرنق من عاصمة الضباب، ويحاول تعرية أفكاره بالإشارات السالبة حتى وصلت الكراهية أوج معدلاتها بين قرنق وبونا، لكن عنصر المفاجأة المثير للخيال في زيارة بونا ملوال ذات الطابع الخرافي لأهله في مناطق الدينكا في تلك الظروف، دون أن يتعرض لأي عواصف أو إجراءات شرسة من قبل قرنق وسطوته، فقد كان بونا في حماية صديقه الحميم سلفا كير حتى خرج سالماً إلى أوربا. أما المشهد الآخر فقد كانت وقائعه في قصر الضيافة عندما جاء سلفا كير لتوه من جوبا في أول زيارة له للخرطوم، بعد أن صار النائب الأول لرئيس الجمهورية، حيث شاهد الكافة بونا ملوال يومذاك جنباً إلى جنب مع سلفا كير في بيت الضيافة يتهامسان ويقتربان من بعضهما، وهنا طارت الشائعات والأقاويل حول مغزى ذلك الموقف وعلق أحد الصحفيين بأن هذا المشهد سيريالي. ومن جهته ذكر باقان أموم أن اقتراب سلفا وبونا يقلل من تناحر الجنوبيين.. لم تصمد وشائج التقارب على المدى الطويل بين سلفا وبونا أمام حالات تقلبات الطقس والرياح العاتية في فضاءات القضية الجنوبية وأبعادها على المشهد السياسي. وربما لم يدر بخلد أحد أنه سيأتي يوم تتهاوى فيه مداميك الصلات بين سلفا وبونا إلى مستوى العداء الملتهب. وهنا يتبلور سؤال منطقي حول أسباب سقوط العلاقة بين الرجلين؟ البعض يرى بأن إبحار بونا نحو بوصلة المؤتمر الوطني هو واحد من الأسباب، بينما ترى أطراف أخرى أن هناك من دلق الماء الساخن على وتر الحميمية بين الاثنين من داخل الحركة الشعبية، وتعتقد دوائر معينة بأن اختلاف المفاهيم والرؤى بين بونا وسلفا من الطبيعي أن يؤطر إلى هذا التباعد والقطيعة!! ولذلك قد تكون جميع تلك الاستنتاجات والإجابات صحيحة. لقد كان لافتاً للنظر إشارات بونا الغليظة حيال سلفا عندما ذكر أن قيادة الحركة الشعبية تدير الجنوب بصورة سيئة. وقد بادله سلفا كير على هذا الهجوم بإجراءات سلطوية حرمته من مخاطبة اللقاءات الجماهيرية في مناطق تورالي وواراب بالجنوب، وقد استهجن بونا هذا السلوك ووصفه بالديكتاتوري والقمعي. وقد بلغت ذروة محطات الصدام بين بونا وسلفا عندما نظم الأول بالتنسيق مع لام أكول رئيس الحركة الشعبية للتغيير، مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي الذي شارك فيه حوالي 17 حزباً جنوبياً بهدف الإطاحة بالحركة الشعبية في انتخابات أبريل المرتقبة. ويرى المراقبون أن بونا هو عراب هذا المؤتمر الذي تقوم فكرته على التحالف الذي نسجته أحزاب كينية عام 2008م، تحت اسم «تحالف البرتقالة» بزعامة رابيلا أودنقا رئيس الوزراء الكيني الحالي، والذي نافس الرئيس الكيني مواي كيباكي في الانتخابات الشهيرة التي انتهت بأعمال عنف في البلاد، ولم يتورع بونا في القول إن انعقاد مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي انعقد بالخرطوم لأن جوبا بها مضايقات ومثالب أمنية!! سجال الحركة الشعبية إزاء بونا ملوال كان عنيفاً، فقد اتهمته قياداتها بأنه يقود عملاً خطيراً يقوم على إزالة سلطة الحركة الشعبية بالجنوب وفق أجندة مدروسة! وعلى ذات السياق انتقد ياسر عرمان مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي والقائمين على أمره، مبيناً أنه يمثل الاسم التجاري «لكنانة الثانية» وقال بأن الأحزاب الجنوبية الفاعلة لم تشارك فيه، على رأسها الحركة الشعبية ويوساب وسانو والجبهة الديموقراطية وغيرها.. وبعد.. هذه المفارقة الهائلة في العلاقة بين سلفا كير وبونا ملوال ربما تلقي بظلال مؤثرة على الملف الجنوبي الذي تنتظره قضايا إستراتيجية، على رأسها موضوع تقرير المصير فضلاً عن انعكاساتها لجهة التناحر بين الجنوبيين الانفصاليين والوحدويين.