قلنا في ما مضى، إن من أمثلة تسربل الموقف السياسي بالقداسة تقيةً من القمع؛ ما أثارته عادة تعاطي التمباك من جدل، جعل تلك العادة من أكبر هموم النخبة في عهد الفونج.. فقد كانت قضية تحريم أو إباحة التمباك، شاهداً على امتزاج الفتوى بما هو ديني وما هو دنيوي، وكانت شاهداً كذلك على أن البت في أمر كهذا، لم يكن من اختصاص النخبة وحدها، ونعني بالنخبة هنا أهل النص من الفقهاء، وأهل المعرفة الكشفية من المتصوِّفة. وقلنا إنه وإلى عهد قريب كان التمباك /التدخين ثقافة كونية، وكان المدخن هو من يستوعب العمق الفني والجمالي في الأشياء... وعلى النقيض كان فكر الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر يرى التدخين شراً.. ما يهمنا هنا أن موقف الإمام المهدي كان إلتزاماً بموقف اجتماعي، لأن التدخين ارتبط في الذهن السوداني بالجرح الذي أصاب الكبرياء الوطني، بعد حملات الدفتردار الانتقامية، وهو موقف رفض، يمتد في التاريخ إلى بدايات عهد السلطنة، حيث وقعت المناظرة الشهيرة بين الصوفية والفقهاء حول التمباك. فى أجواء تلك المناظرة نرى ثقافة النخبة، بأنها كانت مزيجاً بين المذهبية والعرف، وأن مناخ المناظرة كان سياسياً بالدرجة الأولى، لأن ميدانها كان بلاط المانجلك ..كما أن الحادثة المناظرة كشفت عن تماهي النخبة الفقهية مع مدونات الأزهر التي تسرّبت الى السودان مع الهجرة وبالتحاق بعض أفرادها بروّاق السنارية.. كان ممثل الصوفية في المناظرة هو الشيخ إدريس ود الأرباب، الذي أعلن أن موقفه بتحريم التمباك يستند على فتاوي عثمانية مقروءة على ضوء نص مالكي.. قال الشيخ إدريس، "إن التمباك حرام : ""حرمه سلطان الاسطنبول ومذهب مالك اطاعة السلطان".. مثل هذا القول- اطاعة السلطان- كان جديراً بأن يخرج السلطان من حياده المتوهم.. وطالما أن ممثل ضمير الأغلبية - الشيخ ادريس- قد عزف على وتر الطاعة، فليس للسلاطين إلا أن يعضّدوا موقفه..! وبمقاييس التنطع الفقهي المعروفة، فقد كان من المتوقع أن يتشدد ممثل الفقهاء في تحريم تعاطي التمباك، على عادة الفقهاء في الفتوى، ولو من باب القياس أو التعزيز.. لكن ممثلهم الشريف عبد الوهاب " أنكر فتوى التحريم، وأفاد بالإباحة، مستنداً على فتوى وافدة من الأزهر الشريف، هي عنده من المسلمات... قال الشريف عبد الوهاب، معارضاً للشيخ إدريس ود الأرباب في حضرة الشيخ عجيب :"من رأسه أو من كراسه"؟، أي أنه كفقيه، يظل يعلن دائماً بحثه عن نص قطعي، وإن تعارض بحثه مع ما يدعو إليه من التزام بأحد أئمة المذاهب..! أعلن ممثل الفقهاء، أنه اعتمد في تحليل تعاطي التمباك على رأي الشيخ الاجهوري، فقال فى المناظرة إن: "شيخ الإسلام الاجهوري أباح شربه"..بهذا ركن ممثل الفقهاء إلى فتوى من الأزهر ، ورفض فتوى مالِكية من واقعه، لأن له موقفاً فكرياً مُسبّقاً، ولأنه معصوب بآفة الفقهاء في رفع لافتات النصوص المستوردة..! الشاهد، أن رفض الفقيه- الشريف عبد الوهاب- لفتوى الشيخ إدريس في أسها المالكي، واعتناقه فتوى الأجهوري وهو إمام المالكية في مصر، إنّما يدل على ماهو أبعد من مجرد التثبت في أمر ديني..! إنّ غياب الحكمة وراء رفض فتوى الشيخ إدريس وقبول فتوى الشيخ الأجهوري، وكليهما مالِكي المذهب، قفز بالمناظرة من الحوار الفكري العقلاني، إلى فضاء الكرامة وعالم الميتافيزيقيا.. وقد كان ذلك القفز بسبب التحفيز الفقهي الماثل في صورة المعاندة والتحدي.. وبمثل ذلك كانت الكرامة، دليلاً يضاهي كل نص!.. لماذا كانت الكرامة في مثل تلك الحال، تضاهي النصوص..؟ ذلك لأن الحرف كان نادراً ومتداولاً في نطاق ضيق، وما كان على الفقهاء، المطالبين به بإلحاح، إلا أن يُعاقبوا ضمنياً..! نواصِل ..