النقاش الذي ثار في المجلس الوطني حول القرض التركي البالغ أكثر من «21» مليون يورو لتمويل مشروع للصرف الصحي بالخرطوم، أعادنا مرة أخرى إلى الجدل المتطاول بين العلماء والفقهاء حول «سعر الفائدة» الذي تتقاضاه البنوك لقاء الإقراض، وذكرنا بسلسلة مقالات كتبها زميلنا وصديقنا محجوب عروة في «السوداني» قبل سنوات، مرجحاً ومؤيداً رؤية «الأزهر الشريف» وبعض علمائه ومؤسسات الفتوى فيه، التي لا ترى في سعر الفائدة الذي تتعامل به البنوك رباً صريحاً وأحلَّت التعامل به، استناداً إلى أن من يأخذ قرضاً من بنك لا يفعل هذا مضطراً، بل بهدف الاستثمار على الأغلب، فيجني الأرباح التي لا بد أن يكون لصاحب «رأس المال» أو البنك فيها نصيب، هذا على مستوى المعاملات الداخلية أو المحلية بين الأفراد أو الشركات والمؤسسات المالية والبنوك في البلد المعين. وهو على كل حال جدل نشأ مع قيام ما يعرف ب(البنوك الإسلامية) التي لمفكرين ومنظرين آخرين رأي فيما تفعله وما تقوم به من معاملات، ومدى صوابية انطباقه على مقاصد الشرع الحنيف، ولكن هذا ليس ما يعنينا في هذه «الإضاءة» على واقعة النقاش الذي شهده البرلمان أخيراً حول القرض التركي لمجاري الخرطوم، تلك المجاري التي شكا والي الخرطوم السابق عبد الحليم المتعافي من كلفتها العالية التي ليس في قدرة الحكومة مواجهتها بإمكانياتها المحدودة، لو تتذكرون. ما يعنينا حقاً هو مسألة «شبهة الربا» التي أثارها بعض أعضاء المجلس الوطني حول القرض التركي، الذي يدخل في دائرة تعامل الدولة مع الدول الأخرى والمؤسسات العالمية للإقراض مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وبما أنني لستُ مؤهلاً - فنياً أو شرعياً- للإفتاء في الأمر من حيث «التحريم أو التحليل» إلا أنني استحسنتُ قرار المجلس الوطني الذي صدر في مسألة القرض التركي و الذي صدق بالأغلبية على اتفاقية القرض التركي، برغم تحذيرات بعض النواب من أن القرض ينطوي على شبهة ربا أو ربا صريح، وتحفظ بعضهم الآخر على مسألة القروض من أساسها في ظل إرهاق الديون الخارجية لميزانية الدولة. أثار «الشبهة الشرعية» النائبة الدكتورة عائشة الغبشاوي، وأثار «التحفظ الاقتصادي» رئيس لجنة الزراعة بالمجلس السيد يوسف الشريف. ودافع عن «استيفاء القرض للشروط الشرعية» النائب الشيخ المك المدير السابق بالبنك المركزي باعتباره قرضاً سلعياً، بالرغم من تحفظاته هو أيضاً من وجهة نظر فنية، وتنبيهه لوزارة المالية إلى ضرورة التدقيق في الشروط الميسرة للقروض، خصوصاً في تلك الموجهة لإنجاز الخدمات، لأنها كما قال لا تأتي بفوائد مباشرة، وتفضيله لأن تأتي مثل تلك القروض عبر اتفاقيات مع حكومات وجهات رسمية وليس من القطاع الخاص. وربما دفعه لمثل هذا التفضيل تجربته الطويلة في مجال العمل المصرفي وخبرته في كيف تكون الحكومات والدول أكثر تيسيراً وتساهلاً في استرداد ديونها، مقارنة ببنوك أو مؤسسات وشركات القطاع الخاص التي يهمها جني أكبر الأرباح في أقصر وقت، ولا تراعي الاعتبارات المتصلة بالعلاقات السياسية والدبلوماسية كتلك التي تطبع عادة التعاملات بين الدول. ملاحظتنا الأساسية، وتساؤلنا الأهم ينصب على كيف يستطيع السودان تسيير وتيسير قضاياه وأموره الاقتصادية في وسط عالم يتعامل جله، إن لم يكن كله، بمبدأ سعر الفائدة في الديون، بينما يرى بعض نوابنا ومسؤولينا أنه لا يصح، بل من المحرم الحصول على قرض خارجي تترتب عليه فوائد للدائنين، أكانوا دولاً أو مؤسسات مالية عالمية. أهمية التساؤل والملاحظة تنبع من واقع أننا أولاً دولة فقيرة ولديها موارد وفيرة لن تستطيع استثمارها أو الاستفادة منها إذا لم يتوفر لها التمويل اللازم، وينبع ثانياً من أننا مقبلون على مرحلة شح وتناقص في موارد الخزينة المركزية من النقد الأجنبي مع تناقص حصتنا من عائدات النفط إثر الانفصال المنتظر كنتيجة حتمية للاستفتاء على تقرير مصير الجنوب. فهل بنظر هؤلاء أننا نستطيع أن نجبر العالم كله من حولنا بتبني نظامنا الاقتصادي والخضوع لمقتضياته وإقراضنا بدون فوائد أو الدخول معنا في «شراكات ومرابحات ونظم بيع» حسب ما يقتضيه منهج البنوك الإسلامية، وهل هم مستعدون لفعل ذلك، وماذا يجبرهم للخضوع لمطلوباتنا، بينما العالم كله مفتوح أمامهم ويبحث عن من يقدم له القروض وفق الشروط المعتادة. وقد يتفرع التساؤل أيضاً ليشمل قروضنا وديوننا المستحقة السداد، البالغة أكثر من «37» مليار دولار - معظمها فوائد وخدمة ديون- تراكمت علينا عبر أكثر من «27» عاماً، ففاقت «الفوائد» بسبب التأخير «أصل» تلك الديون، هل نقول -مثلاً- لهؤلاء الدائنين وفي طليعتهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أننا لن نعطيكم سوى «رؤوس أموالكم»، لأن تلك الفوائد وخدمة الديون تنطوي على شبهة الربا، أم سنجد أنفسنا مضطرين - بفقه الضرورة- لتسديد تلك الديوان بفوائدها وخدماتها، لأن بيننا وبين الدائنين «ميثاق غليظ» لا نستطيع نقضه، فعدم الوفاء به يعني أن نتحول إلى جزيرة معزولة أو نجمة شاردة في بحر الاقتصاد العالمي أو مجرته الكونية. إلا أننا في الواقع العملي والتطبيق الملموس نفعل عكس ما يقول به بعض «المؤدلجين» سياسياً واقتصادياً من أعضاء البرلمان، فها هو السيد عبد الرحيم حمدي وزير المالية السابق يعلن في ورشة «الاستفتاء ومستقبل السودان» التي انعقدت أمس الأول بقاعة الشارقة في جامعة الخرطوم، وكان من بين موضوعاتها قضية الديون، يعلن: «أن البنك الدولي ظل يتحدث عن (سداد الفائدة) فقط، وظل السودان يسدد(300) مليون دولار شهرياً، وكلام حمدي يعني ببساطة أننا نقول شيئاً عندما نعتلي منابر «الدعاية السياسية» ونفعل شيئاً آخر عندما يجد الجد فنرضخ «لأحكام الواقع». كل ذلك يؤكد أننا مقبلون على مرحلة حرجة -سياسياً واقتصادياً- تتطلب منا مرونة وسعة أفق أرحب تمكننا من عبور المأزق الذي نستشرفه، مأزق الانفصال والتقسيم، الذي لابد سيحمل معه العديد من المتغيرات التي يتطلب استيعابها والتعامل معها واتقاء شرورها المزيد من التدبر والحكمة وبعد النظر.