٭ ليس لدي ذرة من شك في أن هذا الوطن وطناً عظيماً شاهقاً.. ولا انتابتني ولو مثقال ذرة من خردل في صدق مقولة إن هذه الأمة السودانية خير أمة أخرجت للناس. ٭ وتأكد يقيني وثبتت أركان ثقتي ومراهنتي.. وبالأمس وفي ربوع «آخر لحظة» تأتي كوكبة من الشموس وهي تضيء عتمات ليل الوطن الجميل.. وأصل الحكاية إن عقداً ماسياً اسمه «متقاعدو الجهاز المركزي للإحصاء قد قرر أن يقدم روعة أوراق وبهيج حديث وعظيم ندوة لأسرة «آخر لحظة».. وأقول الحق.. فقد دلفت إلى قاعة المحاضرة المترفة أجر جراً أقدامي إلى «الصالة» فقد أوحت إلى كلمة «متقاعدي» إلى أن هدف المحاضرة هو طرح مشاكل «المتقاعدين» في أي مصلحة على مر التاريخ.. إذ دخلت القاعة وأنا أرعد في تشاؤم مع ضرير المعرة ورهين المحبسين أبي العلاء المعري قوله الباكي: كل من في الكون مثلي أعمى فتعالوا في يوم ضرس نتصادم ٭ وسبحان مغير الأحوال.. فقد خرجت من القاعة وبعد انتهاء المحاضرة وذاك الحديث الذي هطل لمدى ثلاث ساعات وتزيد.. خرجت وأنا أتيه زهواً وأتطاول فرحاً مردداً مع الهادي آدم.. غداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلا وغداً ننسى فلا نأسى على ما ض تولى وغداً للزاهر الحاضر نحيا ليس إلا.. ليس إلا.. ٭ ويضيء هؤلاء المتقاعدون القاعة في بهاء.. رجال أفنوا نور عيونهم على ضوء المصابيح.. انفقوا أزهى أيام شبابهم وهم يهبون الوطن البدائع والروائع.. الذي أدهشني حد العحب بل حد الطرب.. أن هؤلاء الرجال الأساتذة.. ما انقطعت صلتهم وتهرأت خيوط وصالهم مع مؤسستهم العملاقة بعد أن حان «المعاش» وحل آوان «التقاعد».. حملوا معهم جهاز الإحصاء المركزي في تجاويف صدورهم وداخل آخر بوصة من سويداء قلوبهم.. تحدثوا عن الوطن.. عن الشعب.. عن الحيوان والإنسان الرمال والشجر.. تحدثوا عن الحل والترحال.. عن المدارس والمشافي عن المستقبل «اللسه سنينو بعاد» ولم ينطقوا بحرف واحد عنهم شخصياً ولا ظلامة فردية ولا أملاً بشكر أو تكريم.. ما أنبل هؤلاء الأخوة.. يتصارع الأبيض شيباً ووقاراً والأسود عزماً وفتوة على رؤسهم، ويصارعون المستحيل لخلق أمة عظيمة عصرية ومتحضرة.. ما أكرمكم هولاء الرجال.. فقد عودتنا الأيام أنه وفي كل الدنيا، وعندما يترك الموظف العمل تقاعداً يسدل ستائر من النسيات ويبنى حوائط سميكة البنيان بينه وبينها وهو في المعاش وعلى كرسي «القماش» يفعل ذلك كل الكون.. في كل أركان الدنيا.. وحتى «هنا في السودان» إلا هؤلاء الذين افترعوا نهجاً ما سبقهم عليه أحد، واختطوا طريقاً ما طرقه قبلهم نفر.. وما أروع الانسان عندما يفيض انسانية ويتدفق وطنية وهو يحمل بين تجاويف ضلوعه الوطن وشعب الوطن. ٭ أحبتي.. أرأيتم كيف يعجز القلم عن تصوير هذا المشهد المهيب.. ولكن العزاء كل العزاء إنني سوف أجعل قلمي طائعاً منقاداً وأنا أصور لكم أدق تفاصيل تلك الندوة الرفيعة، وأبهر عيونكم بشمس سطعت في «آخر لحظة» بل مجموعة شمسية اسمها متقاعدي جهاز الإحصاء المركزي.. نتلاقى الأحد..