هات من الآخر.. قبل أيام شهدت حفل تكريم لأحد رموزنا الذين لا خلاف على أثرهم في حياة أهل السودان.. استوقفني كلام كثير رائع ولكنه تأخر.. على كل حال أخيراً عم السرور المحتفى به وأسرته والحضور وهذا الإعلام الكثيف المولع بلمسات الوفاء لسر دفين يضمره الصحفيون والإعلاميون، ربما لأنهم جربوا نكران الجميل.. استوقفني أكثر ما قيل على لسانين، أحدهما من أتراب المحتفى به وصفه بأنه كان خلال عمله (كالأسد)..منتهى الشجاعة في إحقاق الحق،أ الآخر فهو من مرؤوسيه امتدحه بفخر وقال إنه كان يعاملهم كأب.. وبكى!. توفر الصفتين (الجدية والأبوية) معاً في رجل الدولة وشاغل الوظيفة العامة، وفي اي شخص يتصدر الناس هو بمثابة ثروة قومية.. ما أحوجنا لشخص بالإمكان تصنيفه بأنه (كاريزما) مهاب ومحبوب.. تصرفاته تحظى بالقبول حتى لو أصدر أقسى القرارات فهي تفسر لصالح البلد ولخير الأغلبية (هذا ما سمعته في واد مدني الاسبوع الماضي).. سرحت ابعد لأتصور الفراغ الذي يتركه هؤلاء حين يغادرون مواقعهم وتتراجع المعاملة.. روح الجدية والأبوية مطلوبة أكثر في البيوت في زمن عز فيه الوصال بين الأفراد وكبارهم.. هذا مدار حديث المجالس والمنابر التي تجأر بالشكوى من عدوان الإعلام الحديث على الأبناء في غياب الآباء. هاجس (الأبهات) يتجسد أمامي يومياً وأين ما اتجهت.. يستوقفني مشهد من يقول ويكرر في اجتماع يثير مشاكل الاداء العام المتكررة (أنا لا أري لكم حلاً إلا فيما كان يقول أبي).. ولاحظت أنه رغم مكانته العلمية والوظيفية يفتي بذلك حتى لو كان الأمر متعلقاً بمصير الزراعة أو سعر الغاز، أو تمادي الفقر وحالة العملة، أو ما تعرضت له الشهادة السودانية، فالحل الناجع عند أبيه وعمه وكبار أهله هو(الروشتة) بأن نصدق القول وأن نعمل لننتج ونكتفي ولا ننتظر غيرنا بل نعطيه.. وهكذا.. وغالباً لا يحاججه أحد في ما قال أبيه من كلام قد يكون عادياً يوم قاله لكنه أصبح من المسلمات اليوم (كلام أبهات) لا يقع على الأرض وإن طال الزمن. لقد وقعت تحت تأثير هذه الأقوال فأدرت الذاكرة الى أقوال مأثورة سمعتها من كبار وبقيت في الخاطر كقناعات تعززها دراسات في الإدارة الحديثة، التي تأخذ بالحكمة وتتفهم ظروف الناس فمن يأتي بالتي هي أحسن والحوافز، ومن هو عكس ذلك لا يأتي إلا بالشدة ليصبح عظة لغيره ..النجاح كامن في(مسايرة الناس) للتمييز بين الصالح والطالح، وهذه من سمة الكبار سواء كانوا في المؤسسة أو في البيت.. إن التعاطي مع التربية وعلم النفس ضرورة، وكذلك المعالجات التي تأخذ بروح الدراما التي تعني إدارة الصراع بمنطق وأريحية، فإصدار القرارات الخطيرة يأخذ بأسلوب مواجهة (الابتلاءات) باليقين والإحتساب، و(الصراع) بالدراما و(الكي). هنالك حاجة للنصيحة وللمعالجات التي (تعيد الأمور إلى نصابها) بالرجوع للمرجعيات وكلام الكبار وأخلاقيات المهنة، وذلك لكبح الأخطاء قبل ان تصبح خطايا..أين (مناهجنا) في هذا الخضم؟.. هناك أمل.. الاستعصام بالقيم، روح الدين وسيرة السلف الصالح التي يتدثر بها المجتمع وتتعهد الأجيال بالحماية الأزلية، وهناك القدوة الباقية مازالت في البيوت تمشي بين الناس مفعمة بفعل الخير.. وهناك (لمة الأسرة) والمبادرات المجتمعية لإحداث تقارب حميم بين الأبناء والوالدين برغم ظروف العمل وفوضى الوسائط وهجرة لا تبقي ولا تذر. الأحوال تلح لتدارك الغفلة وللتداوي من ضغوط وسلبيات تهدد المجتمع جراء متغيرات متسارعة لا ترحم.. الهاجس الغالب هو البحث عن تعويض لغياب الكبار في الأسرة والمجتمع والدولة.. هل من منظومة معالجات متكاملة، القدوة الحسنة والروح الأبوية الملهمة للصواب فتشيع القيم والتفاؤل والمحبة، وتقي من شرور المتربصين بالنبلاء الباقين على عهد الأجداد التواقين لمواكبة العصر في مأمن من عاديات الزمن المعكرة لصفاء البيئة السودانية الأصيلة والبيت الحصين، والزول الكبير ذاك الذي (كلامه ماشي على الكل)؟..هل وهل؟. وللخواطر بقية: ..(بوريك طبك.. أحسن في من عاداك، أو من يحبك).. كلما سمعتها تصورت أن بإمكان أي منا أن يصبح (قدوة).. رحم الله الشيخ البرعي المحتفى بسيرته هذه الأيام. .. (قل لي من ترافق صباح مساء اقل لك ما مصير ابنك)!..حكمة معروفة. ..النجوم الكبيرة هي التي تظهر ويقتدي بها الناس، في السماء كانت أو على الأرض. ..الأم في مسلسل (قديم) تقول للأب (الأفضل أن لا نتناقش وأنت غاضب، الأولاد يسمعونا)!. ..(صديق لا زوج فقط)..في(خطوبة سهير) وغيرها، مكي سنادة، حمدنا الله عبد القادر، محمد طاهر، صلاح الدين الفاضل،(إرث) من (الرسائل الأبوية) في (المحافظة على البيوت). .. كاتب سناريو مصري قال إنهم (كانوا ) ينتقون عبارات (موحية) تعالج مشاكل (بعينها). ..حسن عبدالوهاب، نجم التلفزيون المحتشد إبداعاً ومروءة على مر الزمن، استأذنه نفر كريم من عارفي فضله ليكرموه، فتبسم معتذراً بأن هناك من هو أولى منه ..أليس هذا سبباً لتكريمه؟!.