في بدايات السبعينيات طاب للوالد عليه رحمه الله وعمنا الشيخ ادريس ود النور وجدنا محمد عبدالله.. طاب لهم السكن والجيرة في فريق تحت في منطقة واسعة الأطراف، ترقد قريباً من النيل الأزرق الجميل، حيث صفاء الجو ورائحة دعاش النيل وأسراب الطيور التي تغازل أشجار الطلح والسيال التي كانت تغطي مساحة كبيرة من منازلنا.. هنا كان المكان الذي انتقلنا إليه من فريق قدام لنجاور عمنا الشيخ ادريس ود النور الحيطة بالحيطة، ذلك الفارس الشجاع الذي كان يمتطيء صهوة فرسه وهو ممتلئ حيوية ونشاطاً.. أنيق الثوب الأبيض وفصيح العبارة.. واسع الحجة وهنا كانت زوجته الخالة ريا بت المرضي عليها رحمة الله تلك المرأة الطيبة والكريمة، والتي تجد فيها كل طيبة أهل القرية وبساطتها، فلا أزال أوقن أن لا أطيب ولا أكرم من ريا بت المرضى، ولا فراسة غير ود النور، ووسط هذه الأجواء كانت هناك امرأة نقية كما الثوب الأبيض الذي ارتدته قبل يومين في رحلتها الأخيرة للخلود الأبدي في ظل مليك مقتدر... كنت وأنا أحمل الثوب الذي توشحته أسترجع سيرتها في خاطري واسترجع نقاء رحمة بت ود النور الشهيرة براحات تلك التي تمنحك الراحة وأنت راقد في الهبابي إلى جوارها تحتسي القهوة، التي تدعوك اليها كل يوم قسراً وكرماً وتعنفك لتحضر جلسة القهوة وتستفزك وتثير كوامن الجيرة داخلك بكلمات حنينة يا ود خالتي أنا ما جارتك... حقيقي لا أظن أن هناك من هو بهذه الطيبة والكرم وصفاء النفس.. إنسانة عفيفة.. عفيفة لدرجة تفوق الوصف عرفتها وشهدتها في مواقف كثيرة... كنا ونحن صغار لا فواصل بيننا، نأكل هنا ونستريح هناك ونلعب من شجرة لأخرى، ونطارد الطيور هنا أو في منزل رحمة، فالبيت واحد والحال واحد والطيور طيور الله كما نقول.. كانت النفوس طاهرة وجميلة وكانت شجرة اللالوب الكبيرة عندهم تشهد أجمل أيامنا، وكانت رامدة بنتهم المبروكة تقابلك كل يوم وهي زاهدة في الحياة تماماً تقابلك فقط ببسمة ساخرة من كل الدنيا، وكان صحن كسرة بطماطم وزيت سمسم هو أجمل ما تتوقعه نفسك، وبعده فنجان جبنة من جبنة راحات الشهيرة والمحضورة دائماً بكامل طقوسها بكري وتني... وكان صوت ماكينة الخياطة التي تجلس عليها رحمة يعطي للمكان الصوت المعتاد سماعه كل يوم، وأنت داخل اليهم فرحمة كانت من أمهر الخياطات ولها زبائنها من قرية الجديد عمران والقرى المجاورة، لذلك كان قوتها حلالاً وكسرتها حلالاً وجبنتها زلالاً طاعمة كروحها الجميلة وضحكتها وصدقها.. كانت ودودة كما ينبغي ولا تمل ونستها .. هي إنسانه لن توفيها كلماتي مهما قلت فيها فلم تكن زولة دنيا، والذكريات معها طويلة وكثيرة، وقفشات الراحل مضوي ود النور شقيقها تتخلل الذاكرة فهو عامل بسيط وأحياناً مزارع محترف.. وأتذكر أيام بطيخ الجزيرة ذي الطعم الحالي، وفي كل الأحوال كان مضوي سريع البديهة جميل النكتة طلق المحيا... حقيقي هي أسرة تترك جواك عميق الأثر، إن فقد رحمة كبير ومكانها شاغر للأبد وطعم الجبنة لا يزال في فمي، وروحها تسكن الدواخل والألم كبير، ولكن رحمة الله بها أكبر. .وابداً ما غالية على ربها... اللهم أرحم رحمة رحمة واسعة بقدر ما أعطتنا، واسبغ عليها بمغفرتك فلا يغفر الذنوب إلا أنت...اللهم جازيها بالإحسان إحساناً، اللهم هي ضيفة عندك فاكرم نزلها.. اللهم أنها لم تترك غير سيرة ناصعة فنقها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. إنا لله وإنا اليه راجعون