المطارات عناوين البلدان وسر وجودها وتطورها، وكذلك العمران كما أفتى بن خلدون .. لحظة هبوطنا مطار الرياض داهمني إحساس صاخب بأنني على موعد مع هدوء حقيقي ظللت اتمناه وأنا أعاني ويلات زحام الخرطوم وصخب عمرانها الذي اكتسح صورتها، وغالب أحيائها بما فيها تلك التي حملت أسماء جديدة مستجلبة، الدوحة، الطائف، يثرب وحي الرياض الذي اتعرض لزحامه يومياً مروراً بجامعات ومؤسسات للاتصال والإعلام والثقافة والعمل الطوعي.. هل في الأفق فكرة لمدن إبداعية أو ثقافية الطبع متجذرة الهوية تيمناً بالأسماء المقتبسة الموحية هذه، أم هو مجرد تقليد أعمى ومباهاة بما عند الآخرين عن إفلاس فينا ؟ الرياض اسم ساطع في سماء الحواضر العربية، سمعنا وقرأنا عنها الكثير لكن الأبلغ ما اكتشفته بزيارتي هذه الأولى، برغم تكرار طلتي على مدن سعودية أخرى شاهقة الذكر مبرورة الأثر يؤمها الملايين من سكان العالم طوال أشهر الحج والعمرة والزيارة، فما كان زحامها إلا عن بركة وتعظيم للشعائر ودليل بشرى لأمة الإسلام.. الرياض بعيدة عن هذا التزاحم الكوني(الروحي).. بعيدة عنه جغرافيا لكنها تديره بهدوئها وعن كياسة وفطنة لدرجة الدهشة. الهدوء هو ما لاحظته يعززه وقار وطمأنينة يوحي بها هذا العمران المتناغم، ليعطيك الإحساس بأنه مقصود أن تكون الرياض هكذا (مختلفة) بخصائصها التي تستمدها من التاريخ والإرث والمعاصرة، وكأنها انموذج لوصفات بن خلدون التي اقتبستها مدارس الغرب ومعاهده المختصة في مجال التقنية العمرانية .. مدينة راكزة لكنها تتوسع برؤية هي ذات منهج بن خلدون الذي يربط بين التوسع العمراني و(نبل الغاية والهدف والمفاهيم الاجتماعية). عن سر هذه) العقلية( في تصميم المدن سألت مهندساً سودانياً تخصصه المعمار أمضى نحو ثلاثين سنة في مجال الانشاءات الحضرية بالمملكة، فعزى وضع المدينة السكني المتوسع على نمط محدد لارتباطه بقيم المجتمع السعودي المحافظ، ونزعته للابقاء على قيمه فضلاً عن كونه يعبر عن (حالة الأمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (كما قال ابن خلدون وكما هو الواقع فعلاً.. فمعالم مدينة الرياض تعطي الإحساس بالتوازن، وهذا التوازن انعكس على التحرك المبادر للمملكة العربية السعودية اليوم بين ظهراني الشدائد السياسية، وتعقيدات الاقتصاد واشتعال المنطقة حولها.. توازن هو رهان دولة ارتبطت بمقومات الأمة وشعائرها، وحسناً أن نأخذ بمثل هذه الأسماء الموحية بالطمأنينة، ولكن هل أسست مدننا المقتبسة هذه على أي (منهج) لتنمو وتتطور حول فكرة سودانية صميمة ترعاها وتراعيها الأجيال بين ماتراعي بين مقومات هويتها؟ ملامح كثيرة في الحياة السودانية تبدو منفلتة يصعب تدارك ما شابها من ارتباك جراء مايعتمل في النفوس المتغيرة بتغير الزمن.. وربما رأى البعض أن الإصلاح يبدأ من هنا، من إصلاح النفوس وقبلها إصلاح العمران مرتع النفوس المطمئنة. كل شيء هنا يدل على أن وراءه فكرة .. دراسة، قرار، خطة، إدارة ، إرادة، فتمويل.. هي دعوة ملحة علها تجد أذناً صاغية.. أن نعمل(على فكرة) يكون بالإمكان تكريسها والتطور على هداها.. هذا بعض مايعول عليه لإصلاح الحال –على كل حال، فوجود (فكرة) هنا أو هناك هو مايدهش الآن وليس غيره. وللانطباعات بقية : ملامح (الدولة) تتجلى للزائر بشكل حر في مشاهداته وفيما تبرزه الصحف... ويبدو لي تطور الدولة ماثلاً بماتحقق في مجال العمران والتعليم والثقافة وتزايد الخريجين الذين يحملون مسؤولية إدارة البلاد عن وعي بالعصر وانتماء للتاريخ.. الصحف نفسها طباعة ومادة تدل على هذا التطور. كيف حال السودانيين بالخارج؟ المعاناة سيدة الموقف، ولسان حال المغترب مازال مقولة )الغربة سترة حال) ..أنهم هنا (عملة صعبة) و(ثقة) كما جهر أحدهم رداً على سؤالي عن مدى الترحيب بهم. صادفت مجموعة ممن تفرقت بهم وبنا السبل فكان مدار حديثنا (النتائج).. التحدي المشترك هو (تكوين النفس) و(تنشئة الأبناء) هاجس حصاد العمر. أكثر أحياء مدينة الرياض اقبالاً من السودانيين اسمه (غبيرة) حتى الآن ولربما اطلق عليه السودانيون بالمقابل اسماً من عندهم يوماً، أنه يبدو كقطعة من السودان – السحنات والمهن والطقوس والتآلف مع الآخرين. )الرياض( جمع روضة.. وجاء في (لسان العرب) أن الروضة هي الأرض ذات الخضرة والبستان الحسن، والموضع الذي يتدفق اليه الماء فيكثر نبته وتفاؤله... لم اتأكد حتى الآن من حظ مدينة الرياض من كل ذلك، ولكن منظر تدفق المياه الباهر من نافورة المطار جعلني اتفاءل . هجرة هي أم اغتراب ؟ ليس من باب الفلسفة ولكن بعضاً من خاض التجربة يروي أن الاغتراب هو (اسم الدلع للهجرة (كما قرأت في هذه الأثناء لقلم من أهل التجربة ومن الواضح أن معاناة السودانيين خارج الحدود لم تحظ بحقها من التوثيق الشافي، إنصافاً لتضحيات ترقى لمصاف مجاهدات صناعة المجد والانتماء للوطن ..لا مبرر لانتظار أوراق عمل لمؤتمر دوراته متباعدة وقضاياه متشعبة .. متصاعدة، كأشواق الهجرة.