لكل إنسان أمنيات يتوق لتحقيقها، وقد تختلف هذه الأمنيات بحسب قيمتها وطبيعتها لدى الشخص، وعلى المستوى الشخصي كانت أمنيتي في فترة الطفولة زيارة جبل مرة، وبنيت هذه الأمنية على أغنية الفنان الراحل خليل إسماعيل (لوشفت مرة جبل مرة ) ويقولون إن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، فالوصف الذي ذهب إليه خليل في رائعته يجعل الشخص يرسم صورة محددة في مخيلته تجعله متشوقاً لرؤية المناظر التي جسدها في الأغنية .. بعد سنين عددا الحلم أصبح حقيقة، وتحققت الأمنية وزرت جبل مرة وماأدراك ماجبل مرة، ووجدت أن كل تفاصيل أغنية خليل إسماعيل مجسدة على أرض الواقع، وصدق حينما قال لوشفت مرة جبل مرة يعاودك حنين طول السنين وتتمنى تاني تشوفه مرة . زارتها : ثناء عابدين البداية: الرحلة للجبل لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت مبادرة من نفر كريم جمعهم قروب (واتساب) شبكة أهم وآخر الاخبارية والمبادرة نفسها، بدأت بفكرة في عيد الفطر الماضي عندما أرسل أحد الأعضاء صورة لشلالات نيرتتي بمحلية غرب الجبل عقب تحريرها من قبضة المتمردين في ابريل الماضي.. الصورة أدهشت الجميع لروعة الطبيعة فيها واقترح الأعضاء أن يقوموا بزيارة للمنطقة وعكس الواقع هناك، وأن يقولوا للعالم هذه الصورة الحقيقية لجبل مرة، الذي يقع في دارفور التي ارتبطت في الأذهان بالحرب فقط ،وتحمس الجميع للفكرة واتفقوا على أن يجمعوا بعض المعينات للمواطنين هناك، خاصة وأنهم عادوا بعد الحرب، ووجدوا منازلهم خاوية على عروشها وتبنت الفكرة المدير العام لمنظمة سند الخيرية سامية محمد عثمان، وقامت بتوفير عدد (1000)حقيبة مدرسية بجانب زي مدرسي كامل، بالإضافة الى (500) كرتونة أواني منزلية، والى ذلك كانت هناك مساهمة أخرى لاتحاد المرأة بولاية الخرطوم، وقاموا بتوفير عدد (1000) حذاء للطلاب المدارس، وبدأ الترتيب للرحلة التي وجدت السند والتأييد من نائب رئيس الجمهورية حسبو محمد عبد الرحمن، ووزير الدفاع الفريق أول ركن عوض بن عوف الذي وفر الترحيل للوفد. يوم الزيارة: وبما أن الهدف الرئيسي للرحلة كان عكس الصورة الحقيقية لجبل مرة، بعد دحر التمرد كان التركيز الأساسي وعلى أن يكون هناك عمل إعلامي ضخم يستهدف به الوسائط الاجتماعية والإعلام بصفة عامة، واتفق المنظمون على أن هناك 1000 مقطع فيديو وعشرة آلاف صورة يتم عرضها في معرض عقب العودة من الجبل.. تحدد يوم الاثنين الماضي موعداً لانطلاق الرحلة عبر طائرة وفرتها وزارة الدفاع للوفد المكون من 15شخصاً أقلعت بنا الطائرة الى مدينة الجنينة عند الساعة الثامنة، وهبطنا في مطار الشهيد صبيرة بعد ساعتين من الإقلاع، وكان في استقبال الوفد الذي كان بقيادة مدير منظمة سند سامية أحمد عثمان، ومدير شبكة أهم وآخر الاخبارية د. حبيب الله المحفوظ، واستقبلنا في المطار قائد المنطقة العسكرية بالجنينة ووزير التربية والتعليم بولاية وسط دارفور د. محمد حسن بشير، وبعد تناول وجبة الإفطار تحرك الوفد الى مدينة زالنجي- التي تبعد مسافة 1700كلم من الجنينة- فاتني أن اذكر أن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها ولايات دارفور لم تتح الفرصة لزيارتها طوال عملي في مجال الصحافة، ولذلك كنت مبهورة جداً لما رأيته فقد وجدت صورة مغايرة تماما لما كنت أضعه بمخيلتي لتلك البقعة وشعرت بالأسى والحسرة، بأن الزيارة جاءت متأخرة كثيراً، فقد اندهشت كثيراً لروعة المناظر والطبيعة الخلابة التي تتميز بها، خاصة أن الموسم كان خريفاً، استقبلنا والي ولاية وسط دارفور الشرتاي جعفر عبد الحكم على مشارف مدينة زالنجي، واستقبلنا في منزله العامر وسط المدينة، وبعدها عقد اجتماع مصغر مع الوفد بأمانة الحكومة للتنوير بأهداف الزيارة، وعكس ماتم خلال الفترة الماضية عقب تحرير المنطقة، وأكد الشرتاي ضرورة أهمية هذه الزيارات للمنطقة، وقال إن حضور الوفد لمنطقة جبل مرة يعكس الصورة الحقيقية للأوضاع بها.. مشيراً الى حكومة الولاية انتقلت الى هناك لمدة شهر كامل، وعملت على إعادة النازحين.. وقال إن الحياة بدأت تدب فيها وأشاد الشرتاي ببطولات الجيش السوداني الذي حقق الانتصارات، واستطاع تحرير المنطقة التي ظلت قابعة في أيدي التمرد لمدة 13 عاماً بالرغم من وعورتها إلا إنها استطاعت بمنهجية عالية استرداد تلك المنطقة. عزيمة وإصرار: كان من المقرر أن يتم نقل الوفد الى رئاسة محلية وسط الجبل قولو عبر طائرة مروحية، إلا أن الظروف الطبيعية حالت دون ذلك، ورأت حكومة الولاية أن يرجع الوفد من زالنجي نسبة لوعورة الطريق البري الى قولو إلا ان إصرار الوفد للوصول الى منطقة جبل مرة كان اقوى من وعورة الطريق، وقالت رئيسة الوفد سامية محمد عثمان مخاطبة حكومة الولاية بأننا سنصل قولو، وسرونق (كان بعربات ولو بحمير لازم نصل) نائب الوالي ووزير المالية بالولاية اكملا استعدادهم لترحيل الوفد وترتيب الأمر . الطريق إلى قولو: تقرر أن يغادر الوفد من زالنجي الى قولو عند السابعة من صباح يوم الثلاثاء عبر سيارات الدفع الرباعي، وكان برفقتنا من حكومة الولاية وزير التخطيط العمراني ووزير التربية والتعليم، وممثل للعون الإنساني بالولاية، وقد كان دليلنا في هذه الرحلة فرد الاستخبارات النشط الشاب خميس الذي كان كالنحلة يجول بين السيارات تحت المطر، عندما تتوحل في الطين أو الصخور قطعنا المسافة من زالنجي الى قولو في عشر ساعات تقريباً، وذلك لوعورة الطريق الجبلي الذي يفصل بين المدينتن، وقد كانت رحلة مرهقة تماماً إلا أن جمال الطبيعة والجو الخريفي جعلنا ننسى معاناة السفر، مررنا بعد بمناطق لم تسعفنِ الذاكرة بأسمائها، ولكنها مرسومة في مخيلتي وجالت بخاطري عدد من الأسئلة لماذا الاقتتال والتنازع، وكل هذه المساحات الغنية والخصبة تكفي أهل السودان وجيرانه خلافاً للموارد الأخرى التي تكمن في بطن الأرض، وديان كثيرة عبرناها وعلمت أن مياهها تصب في تشاد، وقلت لمرافقي في الرحلة لماذا لا يعملون على حصاد تلك المياه، والاستفادة منها مستقبلاً، وجدنا أن غالبية السكان منهمكون بالزراعة يعملون بهمة ونشاط يردون التحية بأحسن منها وبابتسامة (سلام عافية ماشاء الله ). جلدو: جلدو أحد معسكرات القوات المسلحة وصلناه بعد أكثر من خمس ساعات، ووجنا الروح العالية للجنود الذين استقبلونا بحفاوة وكرم وتناولنا معهم طعام الإفطار المكون من العصيدة، وبملاح التقلية وما أطيبها من وجبة، وصلنا بعد ذلك سرنا الى قولو تحت المطر الى أن دخلناها عند السادسة مساء، وكان في استقبالنا معتمد محلية وسط الجبل العميد (م ) يوسف عبدالله، وقد أعدوا استقبالاً حاشداً للوفد من طلاب المدارس الذين اصطفوا في ميدان وسط قولو مرحبين بالوفد . رد الجميل: أثناء مخاطبة الوفد لمواطني قولو وقفت بجانبي الخالة حواء، وهي تحمل صغيرتها على ظهرها وسلمت عليّ كأنها تعرفني من سنين، وحكت لي أنها كانت تسكن بالخرطوم بمنطقة المايقوما بالحاج يوسف، وأن بناتها تلقين تعليمهن هناك، ولكنها عادت الى منطقتها قولو في العام 2009إلا أنها نزحت مرة أخرى، وهاهي تعود الآن بعد تطهير المنطقة، وأصرت على أن تكرمني وأن أزورها في موقع عملها بالسوق، لأنها ترى أن أهل الخرطوم أحسنوا استضافتها وكثيرون مثل الخالة حواء، قامت منظمة سند بتوزيع معيناتها التي جلبتها لإنسان المنطقة ووجدت الخطوة استحساناً من المواطنيين وأكد المعتمد عودة أكثر من 152 الف مواطن من النازحين إلا منازلهم والآن يمارسون حياتهم الطبيعية. نقف هنا وفي الحلقة القادمة نواصل الصعود إلى الجبل وزيارة سرونق وهذه حكاية أخرى انتظرونا.