نبدأ بالاعتراف والتأمين على أن المهدد الوحيد الآن لنظام الحكم في السودان هو الانهيار الاقتصادي المفضي مباشرة الى ثورة الجياع والفوضى، التي تبدأ عفوية وتتحور الى فوضى منظمة مسلحة في شكل مجموعات جهوية عرقية وآيدلوجية تعم كل البلاد، تستدعي تدخل الجيش في مواجهات دامية لا يعلم أحد مداها ونهاياتها كما يحدث الآن في سوريا منذ أكثر من خمسة أعوام.. المهدد الاقتصادي الذي هو الآن في مراحل التدهور أسبابه سياسية بحتة وتفادي الوصول الى الانهيار الاقتصادي لن يتم إلا عبر حلول سياسية تتم في مسارين غير متوازيين يلتقيان في نقطة استقرار السودان.. المسار الأول داخلي يتمثل في مصالحة وطنية حقيقية عبر تنفيذ وانجاح الحوار الوطني الحالي- نجاح الحوار الوطني الحالي يتم بانضمام الممانعين من حركات دارفور المسلحة وقطاع الشمال وبقية الأحزاب السياسية في قوى الإجماع الوطني ونداء السودان الى الحوار في مراحله الأخيرة قبل العاشر من أكتوبر الحالي أو إجازة توصيات الحوار بدون هؤلاء الممانعين، ومواصلة الحوار الوطني الشامل مع الممانعين بوثيقة التوصيات الختامية كموقف موحد من كل القوى التي حضرت الحوار الداخلي، خاصة وأنها تحتوي على توافق في معظم القضايا التي يثيرها الممانعون.. تقدم هذه الوثيقة الختامية للوساطة الأفريقية لتعرضها على الممانعين لدراستها وإبداء ملاحظاتها على نقاط الخلاف، ثم جلوس لجنة عليا من الحوار الوطني الحالي (7+7) مثلاً معهم، بحضور الآلية الأفريقية لإصدار وثيقة إضافية تُضم الى الوثيقة الختامية للحوار الوطني بعد التوافق على نقاط الخلاف أو إضافة نقاط أخرى، وبذلك يتحقق الحوار الوطني الشامل الذي يدعو له المجتمع الخارجي والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. المسار الثاني خارجي يتمثل في تطبيع العلاقة مع أمريكا وبالتالي المجتمع الدولي- أمريكا كما أسلفنا في مقالات عديدة تريد تعديل النظام فقط وليس اقتلاعه حتى يتوفر الاستقرار في السودان وتتمكن من تنفيذ برامجها المستدامة في السودان اعتماداً فقط على المصالح المشتركة بين البلدين، لذلك جاء تصريح الخارجية الأمريكية الأخير 20 سبتمبر من شقين- الأول إشادة بحكومة السودان في تعاونها مع الحملة العالمية لمحاربة الإرهاب باجراء خطوات عملية محكمة على تقييد حركة المنظمات والجماعات الإرهابية عبر السودان والانضمام الى الحلف السعودي الخليجي المصري المناهض للحركة الإسلامية العالمية ثم قطع العلاقات مع ايران.. والشق الثاني مطالبة الحكومة السودانية بالتوصل الى اتفاق ومصالحة وطنية شاملة تضم كل مجموعات المعارضة الداخلية والخارجية المدنية والمسلحة، يتم بعدها التداول السلمي للسلطة وبسط الحريات- أمريكا عندما فرضت العقوبات الاقتصادية على السودان ووضعته في قائمة الدول الراعية للإرهاب، كانت تتابع وتراقب الحشد غير المسبوق لكل الحركات الإسلامية العالمية، الذي دعا له الراحل د. حسن الترابي- رحمه الله- في أوائل التسعينيات من القرن الماضي في الخرطوم، ثم وصول الراحل أسامة بن لادن وبقائه في السودان لأكثر من أربعة أعوام وتأسيسه لتنظيم القاعدة.. تبع ذلك وصول الزعيم الإرهابي الخطير المطارد دولياً كارلوس واستقراره في السودان، إضافة الى الدعم الكامل لحركة حماس الفلسطينية المنفذة لكل العمليات الفدائية من الأراضي المحتلة، وأخيراً وقوف السودان مع صدام حسين في غزو الكويت. الآن أمريكا اعترفت في التصريح الأخير بأن كل الأسباب التي دعت الى العقوبات الاقتصادية وقائمة الدول الراعية للإرهاب قد انتفت، مما يجعلها في موقف لمراجعة الأمر برمته تحقيقاً لمصالحها في السودان في المقام الأول. مصالح أمريكا في السودان اقتصادية وأمنية- اقتصادية لأنها تعلم أن السودان به ثروات في باطن الأرض نادرة وبكميات كبيرة مثل البترول، والذهب، والنحاس، والتيتانيوم، واليورانيوم، ومعادن أخرى، وبه أراض زراعية لا تقل عن 175 مليون فدان- المستغل منها فقط 44 مليون فدان، وبها وفرة في المياه من النيل والأمطار، وأن المروي من هذه ال44 مليون فدان فقط 4 ملايين والباقي بالأمطار، وتعلم أيضاً أن به ثروات زراعية قيِّمة مثل الصمغ العربي، والقطن، والسمسم، والدخن، والذرة.. السودان يملك 85% من إنتاج الصمغ العربي في العالم- مصالح أمريكا الأمنية لعلمها أن السودان يتوسط ثماني دول استراتيجية بها أنظمة مهددة بعدم الاستقرار وهي مصر، وليبيا، وتشاد، وافريقيا الوسطى، ودولة جنوب السودان، واثيوبيا، واريتريا ثم السعودية- لذلك يجب أن يكون هذان البعدان الاقتصادي والأمني نقطتي قوة للسودان في استغلالهما بأحسن الوسائل لتحقيق مصالح السودان في استقطاب الدعم الأمريكي والأوروبي لإعادة الحياة لثرواته المستدامة، المتمثلة في الزراعة بشقيها النباتي والحيواني والصناعات المرتبطة بهما، وفي تحسين البنية التحتية والخدمات.. حقيقة مهمة تساعد في الاستفادة من رغبة أمريكا في إعادة العلاقة مع السودان وهي أن أمريكا لا تعادي الإسلام، وتاريخياً وقفت مع الحركات الإسلامية في افغانستان، وباكستان، وايران، وحالياً تقف مع المعارضة الإسلامية ضد نظام بشار الأسد في سوريا، ووقفت مع الحكومة المصرية المنتخبة برئاسة د. مرسي ولم تؤيد انقلاب السيسي. مواصلة التعاون الحقيقي مع العالم في حملته ضد الإرهاب والتنفيذ الجريء الجذري لتوصيات الحوار الوطني الشامل- (بعد انضمام الممانعين)- وبسط الحريات ورفع معاناة المواطنين هي المفاتيح لاستقرار السودان وإبعاده من الانهيار الاقتصادي المدمّر.