*الاثنين الماضي، العاشر من أكتوبر الحالي، التأم الحفل الختامي ل(الحوار الوطني)، بحضور كثيف للفعاليات السياسية الموالية من حزب المؤتمر الوطني الحاكم وحلفائه، بحضور رؤساء بعض دول الجوار: مصر، تشاد، يوغندا وموريتانيا وممثلي بعض الدول الصديقة: اثيوبيا وروسيا الاتحادية والصين.. كان حفلاً بهيجاً تخللته الأناشيد الوطنية والزغاريد.. أُعلنت خلاله المسودة النهائية الجامعة لما استقرت عليه إرادة المتحاورين في إطار ما اصطلح على تسميته ب(مشروع الوثبة)، في إشارة للمبادرة التي أطلقها الرئيس عمر البشير لدى افتتاح الحوار منذ أكثر من عامين، في السابع والعشرين من يناير 2014. *المسودة الختامية للحوار والتي حملت عنوان (الوثيقة الوطنية) احتشدت بالعديد، بل بمجمل المبادئ، التي عادة ما تحملها ديباجات الدساتير والنصوص الدستورية المستقرة والمتعارف عليها في النظم السياسية الحديثة وتقررها الوثائق الدولية، ولا يكاد يخلو منها دستور أو عقد اجتماعي.. بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم، الذي يقرر صناع القرار فيه مدى التزامهم أو تجافيهم عن روح ونصوص تلك المبادئ في الممارسة العملية واليومية للحكم. *فبعد ديباجة مطولة عن الحوار وحتميته والضرورات الوطنية والتحديات التي أملته، والإشارة الى (الإرادة السياسية للدولة) وقبول المشاركين للمبادرة انتهى (المتحاورون) الى (مخرجات ووثيقة وطنية تؤسسان لعقد اجتماعي بين أبناء السودان، تعزز وترسخ من خلالها مبادئ الحرية والشورى والديمقراطية وسيادة حكم القانون والعدالة والمساواة).. كما جاء في نص الديباجة. *إن أي قارئ متدبر ومنصف لمسودة (الوثيقة الوطنية)، لابد أن يقف عند مظهرين لتلك الوثيقة.. أحدهما شكلي والآخر موضوعي. *شكلياً، من حيث اللغة والصياغة.. جاءت الوثيقة مرتبكة ومضطربة،.. فمن قام/قاموا على كتابتها لم يتحروا التسلسل الصياغي.. فيلاحظ القارئ من منذ الوهلة الأولى تداخل العبارات والقضايا بين كل فصل وعنوان وآخر، بل وإقحام قضايا وموضوعات لا علاقة لها بالفصل والعنوان المعني.. هذا بالإضافة للجمل المطاطية والمتداخلة التي تقطع نفس القارئ، والتكرار غير الضروري لبعض العبارات في أكثر من موقع وفقرة.. وهذا ما سنعود اليه في إضاءة منفصلة تعالج اختلالات الوثيقة الصياغية واللغوية. *أما موضوعياً، فإن الوثيقة قد تم تقسيمها بعد الديباجة الى ستة فصول، هي (الهوية، الحريات والحقوق الأساسية، السلام والوحدة، الاقتصاد، العلاقات الخارجية، ومخرجات الحوار الوطني). *في باب الهوية، لم يأتِ (المتحاورون) بجديد، سوى الدعوة لإقرار التنوع الاعتراف بالتعدد الثقافي والاجتماعي لمكونات الشعب السوداني، وهو تعدد تاريخي وتنوع معاصر قتلته اتفاقات السلام المتعددة وأهمها اتفاقية نيفاشا ودستورها بحثاً، وليس فيه فرصة لمستزيد.. وقبل نيفاشا والصراعات الاثنية الجهوية التي غرق فيها السودان عقوداً، كان الشعراء والفنانون قد أثروا الساحة بالأناشيد والأغاني المعبرة عن سودانوية الوطن، ووحدة شعبه في تنوعها وتعددها.. بما يجعل هذا الفصل لا يشكل أية إضافة تذكر. *في الاقتصاد، دعت الوثيقة الى اعتماد فلسفة اقتصادية تقوم على (الحرية والمسؤولية الاجتماعية وتؤسس لعدالة توزيع الدخل القومي والمحافظة على البيئة واستدامة الموارد، وتهيء لامتلاك القدرات التنافسية للإنتاج الوطني) و(تحقيق رؤية استراتيجية شاملة تقوم على المعرفة، ترتكز على المعاني الإنسانية والاجتماعية والبيئية (بما يحقق التنمية المستدامة ويجسد التوازن التنموي ويعزز العدالة الاجتماعية والرفاه للشعب، ويكافح الفقر مع مراعاة التمييز الإيجابي للمناطق المتأثرة بالحرب واعتماد توجه اقتصادي مختلط) من أجل الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي ومكافحة البطالة وترتيبات داخلية مناسبة لإدارة الشراكة الاقتصادية الاقليمية والدولية. *وهنا أيضاً يمكن ملاحظة أن المبادئ العامة الخاصة بإدارة الاقتصاد ليست محل خلاف، ولن تكون بين المتحاورين أو الممانعين.. فهي أصبحت بمثابة مبادئ مستقرة تتبعها معظم الدول، حتى تلك التي كانت اشتراكية، كما هو الحال في الصين وروسيا.. لكن يظل الفيصل هو الانحيازات العملية للحاكمين، هل هم مع العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر وهموم الناس العاديين فعلاً لا قولاً؟!. يتبع..