في المسلسل العربي «تاجر السعادة».. يتحول البطل بالدصفة من عاطل يقرأ الكف باللمس لكون أنه كفيف، إلى مناضل يقود حركة سياسية معارضة تحاول استمالة الجماهير وحثها على التغيير باستخدام أساليب ضغط سياسي تتخذ من الضائقة المعيشية سلماً لتحقيق أهدافها.. الرجل قاده أفراد من الأمن كدجال فوجد معه داخل الزنزانة عدداً من الشباب اعتقلوا ضمن تنظيم حركة الخبز أولاً.. ولأن المعتقلين كانوا يجهلون شخصية زعيم التنظيم، اعتقدوا أن الدجال هو قائدهم متنكراً في شخصية دجال، فأخذوا يخاطبونه على هذا الأساس، إلى أن أقتنع الدجال أنه هو الزعيم السياسي وقائد حركة المعارضة وقبله كان الأمي.. فذاق من العذاب ما يلقاه منتسبو هذه الجماعات أضعافاً مضاعفة من نصيب الدجالين والعرافين والمشعوذين.. المهم أن الرجل دخل السجن دجالاً فخرج منه زعيماً سياسياً ومناضلاً شعبياً. فطالما أنه بالخبز وحده يحيا الإنسان ولا شئ آخر غيره.. فسيظل هو السلعة الوحيدة التي تثير الشعوب وتلهب حماس الناس نحو الرفض لكل السياسات والأحزاب شرقية كانت أم غربية، والخبز المعني ليس فقط رغيف العيش المعروف، وإنما يدخل معه في التصنيف كل ما له علاقة وصلة ب(قفة الملاح) رغيف ولحم وطماطم.. وصحة وتعليم ورسوم ومواصلات.. الخ .. وبالتالي فإن كل من يتحدث الآن عن ارتفاع أاسعار السلع والخدمات كما نحن في السودان، فهو عضو في (حركة الخبز أولاً) حتى وإن كان يقرأ الكف. والله العظيم الشارع السوداني كله شماله وجنوبه، لا شغل شاغل لعقله سوى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.. قد تجد من يتحدث عن الوحدة والانفصال في أواسط الصفوة السياسية، لكن تظل حركة الخبز أولاً هي الأهم عند رجل الشارع العادي.. لا لأن مصير البلاد غير مهم لدى العامة.. لكن لأن الرؤية في هذه القضية أصبحت واضحة وتم الحسم النهائي لخيار الانفصال حتى قبل أن يتوجه أحد نحو صناديق الاقتراع.. وعليه فمن الأنسب أن تتجه الدولة بكافة أجهزتها التنفيذية والتشريعية وإعلامها وصحافتها ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص وخبراء الاقتصاد والأكاديميين نحو حل مشكلة الغلاء الفاحش ودراسة المسألة كظاهرة تتفاقم يوماً بعد يوم في غفلة مسؤولينا الذين لا زالوا يحلمون بوحدة جاذبة بعد أن انتهت اللعبة قبل إطلاق الحكم لصافرة البداية. واعتقد أن دراسة الظاهرة التي شلت حركة الناس في معاشهم اليومي.. مهمة جداً قبل أن تظهر حركة أو حركات سياسية تحت شعار الخبز أولاً.. صدقوني أن هذا الاتجاه يمكن أن يقود إلى تيار سياسي يجد المساندة من كافة قطاعات الشعب مهما كانت اختلافاتهم الأيدولوجية.. خاصة في ظل البيات الشتوي الذي تعيشه أحزابنا السياسية كبيرة وصغيرة، وهي تنظر إلى انشطار البلاد ولا تفعل شيئاً سواء تحميل المسؤولية للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية- أقوال بلا أفعال- ففقدت ما بقي حولها من بقايا مؤيدين أو مريدين لا فرق. من أسف أن الحكومة وطيلة الفترة الماضية، تقف مغلولة الأيدي أمام تصاعد الأسعار.. وتقف أيضاً محدودة الرأي إلا من بعض تصريحات لا تسد الرمق، تشير فيها إلى أن ما يحدث غير مبرر.. وترمي باللائمة على التجار.. جاء في الأخبار الأيام الماضية أن القمح الأمريكي سجل تدنياً كبيراً في عقودات البيع الآجل.. وهذا يعني ببساطة أن أسعار القمح الأمريكي من المفترض أن تكون مسجلة انخفاضاً ملموساً.. لكن الشاهد أننا نشتكي من ارتفاع أسعار الخبز.. والبعض شن هجوماً عنيفاً على مطاحن سيقا عندما توقفت عن العمل.. البسطاء حملوا المطاحن المحلية المسؤولية في أزمة الخبز.. واعتبروها يمكن أن تكون بداية (حركة الخبز أولاً) التي تملأ الصحف هذه الأيام.. في اعتقادي أن المطاحن الوطنية مظلومة ظلم الحسن والحسين.. وبريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب.. كيف أقول لكم.. ارتفاع أسعار الدقيق عندنا في الداخل لا علاقة لها بالأسعار العالمية وإن كان هذا الارتباط متلازمة معروفة.. فالسبب الأساسي عندنا هو ما حدث من ارتفاع وتصاعد صاروخي للدولار.. الأمر الذي يشكل خسائر كبيرة للشركات المستوردة.. فهذه الشركات حتى ولو تحصلت على العملات من البنوك وبالسعر الرسمي وهذا طبعاً مستحيل، فإن الأمر لا يسلم من وجود خسائر.. فلك أن تتصور شراء دولارات تصل إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنوياً لتغطية استيراد القمح من السوق الأسود بفارق سعر يصل أكثر من 25 إلى 35% من السعر الرسمي، فهل هذا وضع يمكن أن يجعل هذه الشركات الخاصة تستمر في العمل؟... لا اعتقد. الحكومة حاولت أن تعالج الموقف لكنها اتخذت قراراً أعرجاً يمشي برجل واحدة.. كيف.. أقول لكم.. والي ولاية الخرطوم تدخل تدخلاً إدارياً فاشترى دقيقاً.. أي أنه قام بعمل ليس عمله، حيث أراد أن تكون الحكومة تاجراً تبيع وتشتري وتستورد.. ظاناً أنه الحل الأنسب لحل مشكلة الخبز.. واعتقد أن القرار أعرج.. لأنه ليس من مهام الحكومة أن تدخل السوق (ليدخل القطاع الخاص إلى الجامع). فلو أن حكومة الولاية لم تلجأ للحل الجزئي الذي لا ينظر أبعد من الحدود الجغرافية للخرطوم.. وانخرط مسؤولوها وقياداتها السياسية والتنفيذية والتشريعية في إطار الجهاز التنفيذي والسياسي للدولة، في إيجاد حلول كلية لكافة حدود السودان.. يكون ليس من ضمنها التدخل الإداري الرسمي.. لكانت هذه المشكلة قد تم تفاديها.. كان من الممكن ألا تترك عمليات الاستيراد للسلع الرئيسية تحت رحمة دولار السوق الأسود.. وكان بالإمكان خفض الرسوم والضرائب والجمارك والنفايات و.. و.. مما تأخذه الحكومة باليمين والشمال من قطاعات الإنتاج ذات العلاقة المباشرة بسلع قطاعات الشعب الكادح.. ومن ثم الزام الشركات بالأسعار المعقولة غير المرهقة للشرائح الفقيرة.. واعتقد أن هذا هو الاتجاه الأصلح لدعم الفقراء.. تعالوا لنرى مسألة السكر والتي هوجم فيها جشع التجار وشركات الإنتاج.. فالواقع أن وزارة المالية تلفتت ذات اليمين والشمال لسد الفجوة الإيرادية فلم تجد أقرب من جوال السكر لحل الأزمة.. عملت عملتها في صمت وبلا إعلان.. الأمر الذي جعل الشعب يشتبه في الشركات والتجار ولم يكن يدر بخلده أن الحكومة ذات نفسها هي من فعل ذلك.. صحيح أن التجار لم يصدقوا وانتهزوا الفرصة الذهبية التي أتاحتها لهم وزارة المالية.. لكنهم على الأقل لم يكونوا أول من أطلق شرارة (حركة الخبز أولاً).