وداعاً جوبا.. وداعاً ملكال.. وداعاً واو.. وداعاً مريدي.. وداعاً أنزارا.. وداعاً تركاكا.. وداعاً بور والبيبور والناصر ومنقلا وميوم وبانتيو وفشلا وأويل والرنك.. وداعاً لكل حواضر الجنوب وقراه و «دناكيه» من ود دكونه إلى نمولي.. فلم نكن نحسب أننا نحيا إلى زمن يحدث فيه مثل هذا الوداع «القسري- الاختياري». بالأمس استضافتني قناة «الشروق» في ليلة «الوداع» هذه للتعليق على خبرها الرئيس، الذي كان موضوعه نتائج الاستفتاء على تقرير المصير الذي أعلنته مفوضية الاستفتاء بعد عرض النتيجة على هيئة الرئاسة وإقرارها وقبولها من مجلس الوزراء. في الطريق إلى القناة انتابتني مشاعر شتى من الحزن والألم والمخاوف، حزنٌ ذكرني ببيت المتنبي وهو يرثي «خولة» أخت سيف الدولة الذي كان يحبها ويجلها في صمت ودون إعلان أو تلميح، فقال تلك القصيدة التي سارت بذكرها الركبان واشتهر منها ذلك البيت «طوى الجزيرة حتى جاءني.. خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب». وصلتُ إلى الاستديو وأخذت مقعدي وحيداً أمام الكاميرا لدقائق مرت ثقيلة، أتساءل بيني وبين نفسي لماذا «أنا بالذات»؟! تمنيت لو أن القناة بحثت عن غيري ليعلّق على الحدث، فالارتباك في داخلي كان سيد الموقف. ثم استجمعت بعض قواي لحظة أن خاطبني مذيع النشرة من دبي استعداداً لبدء العمل: أهلاً بك أستاذ طه.. مُنور الشاشة.. رحبت به، وكدت أن أرد عليه بالقول «أي نور» في مثل هذه الليلة الظلماء التي نفتقد فيها «بدراً» بحجم جنوب السودان، ولكنني سيطرت على لساني في اللحظة الأخيرة. بعد استماعي لتفاصيل الخبر «موضوع» النشرة، والتي كنت أعلمها مسبقاً، سألني مذيع «الشروق» من دبي عن رأيي في نتيجة الاستفتاء وتقييمي للموقف المترتب عليها؟ فقلت له: إنه يوم حزين في حياة الدولة والأمة السودانية، يوم هو خلاصة سلسلة من الأخطاء المتراكمة والفشل في إدارة التنوع والتعدد الذي هو طابع الأمة السودانية عبر آلاف ومئات السنين، حيث كان السودانيون، بقبائلهم وممالكهم ومشيخاتهم يتعايشون ويتساكنون ويتصاهرون ويتخاصمون ويتصالحون بعرض وطول هذه المساحة المشهورة ب«المليون ميل مربع» حتى قبل أن يعرفوا الدولة، لكنهم في عهد الاستعمار والعهود الوطنية التي غلب على جلها طابع النظم الشمولية والعسكرية، صار الجنوب مستودعاً للحرب والنزاع، حتى استيأس القوم هناك من فوائد الوحدة وخيراتها فاستقروا على مبدأ تقرير المصير والانفصال الذي أُعلنت نتائجه اليوم. وعبّرتُ له عن مخاوفي من أن انفصال الجنوب قد يكون بداية «لانفصالات» أخرى أو عدم استقرار، إذا تجاهلت الدولة شمالاً وجنوباً حقائق التنوع والتعدد الاثني والثقافي ولم تعمل مبادئ العدل والديمقراطية المتوازنة، وفي ذهني طبعاً جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان حيث «المشورة الشعبية» التي لم تعرف نتائجها بعد، وفي خاطري كذلك «دارفور» التي استعصت أزمتها على الحل وأنهكت الوسطاء الأجانب والعرب، و«أبيي» حيث لم يتحرك أي جهد بذل إلى الأمام حتى عاد إلى المربع الأول ونقطة الصفر، والتي طالما طالبنا أصحاب الأمر في الشمال والجنوب بجعلها «نفاجاً» ومنطقة تكامل وتواصل بين الشطرين في كلا حالتي الوحدة والانفصال، بعد أن أصبحت كل الدلائل تشير إلى أن الانفصال هو «خاتمة المطاف». وسألني المذيع عن رأيي فيما ذهب إليه الفريق سلفاكير رئيس حكومة الجنوب في كلمته بهذه المناسبة من أن قبول الدولة في الشمال بنتائج الاستفتاء والاعتراف بالدولة الجديدة سيدفع بباقي دول العالم لتحذو ذات الطريق، فأجبته بما معناه أن هذا القول من قبيل المجاملة، لأن الفريق سلفاكير وجميع المراقبين يعلمون بأن اتفاقية السلام لم تكن صناعة سودانية خالصة، وأن الجهد الدولي والأقليمي عبر الإيقاد وشركائها من الولاياتالمتحدة إلى بريطانيا إلى النرويج وفرنسا، ومن كينيا إلى يوغندا إلى أريتريا كانوا جميعاً وراء هذه النتيجة التي استهدفت تقسيم السودان وتجزئته، فهم لم يكونوا سعداء لوجود دولة بحجم السودان تربط جغرافياً وإستراتيجياً العالمين العربي والأفريقي وتشكل امتداداً وتواصلاً بين الحضارتين العربية- الإسلامية والأفريقية، ولهم جميعاً أجندتهم الخاصة في الموارد البكر التي يزخر بها السودان. الآن، ونحن نقف أمام حقيقة الانفصال عارية بلا رتوش، ونحن موعودون بحلول التاسع من يوليو باستكمال الإجراءات ونشوء الدولة الجديدة، نودعها وننزل علم السودان الكبير من هناك، ماذا عسانا فاعلين منذ اليوم وخلال الخمسة شهور المتبقية، هل نستسلم لواقع الانفصال بمعانيه وتداعياته غير الحميدة، أم نذهب في الاتجاه المعاكس اتجاه أن «الوحدة» هي الأصل و«الانفصال» هو الاستثناء في حالة الشعب الواحد والأرض الواحدة والتاريخ والحضارة المشتركة. ولكي تكون الوحدة هي الأصل والانفصال هو الاستثناء لابد أن تتجه الدولتان في الجنوب والشمال- على وجه الخصوص- إلى التعامل مع قضايا المرحلة الانتقالية بروحية الوفاق والإيثار والتناصر، وليس الخلاف والتنازع والمحاصصة واستخلاص الحقوق الإقليمية في الثروات والحدود بالأظافر والأنياب، كما أن على القوى السياسية شمالاً وجنوباً، أن تكرس جهودها للإبقاء على العلاقات الفكرية والثقافية العابرة للحدود، وحبَّذا لو نشأ حزبٌ جديد شمالي جنوبي في الشطرين يكون هدفه الأول هو استعادة الوحدة في أقرب الآجال المستقبلية الممكنة، حزب من ناشطين مؤمنين بأهمية وقيمة الوحدة لمستقبل كل السودانيين أينما كانوا في اتجاهات الوطن الأربعة، الحزب السوداني من أجل الوحدة والعدالة والديمقراطية. حزب من طراز جديد يتجاوز كل عوار وصغائر النزعات الجهوية والاثنية والأيديولوجية، وتكون «الوطنية والهوية» السودانية هي ديدنه ومبتعاه وتكون الديمقراطية وحقوق الإنسان السوداني هي وسائله لتعبئة الجماهير واستقطابها، ويكون العدل بين الجميع وللجميع هو ميزانه للتفريق بين الحق والباطل، فلو نشأ مثل هذا الحزب في الشطرين وتمكن من خلق التواصل والتعبئة، فلا بد أنه مدرك غايته ومبتغاه ولو طال السفر.