في العام تسعة وألفين إبان موجة التشريد والتهجير الصاعقة التي اجتاحت مناطق الشلك على يد أبناء الدينكا، مبتدأ تلك الأوجاع بالهجوم على منطقة «نقديار»وحرقها وافراغها من سكانها، حيث كانت معاناة الأطفال وقتلهم في غياب الكبار الذين كانوا يحضرون احتفالات أعياد السلام بمدينة ملكال، وتلتها مناطق أخرى تجرعت ذات الكأس على يد مليشيات الدينكا بمشاركة عناصر من الجيش الشعبي. وأخيراً جاء سلفاكير وأخذ الزير إلى البئر بتسليمه منطقة القنال، والتي تم ضمها لمحافظة خور فلوس التابعة لقبيلة الدينكا، واتخذوها رئاسة المحافظة وتسمى الآن «بيجي» وهي واحدة من المناطق التي ظل يقطنها الشلك حتى قبل ورود الدينكا إلى منطقة أعالي النيل الحالية، لكن هذه شريعة الأقوى، ولو أن الظفر في المعركة دائماً ليس للأقوياء وكذلك الفوز في السباق غالباً ليس للعداء السريع، فالجميع يتعرضون لتقلبات الحياة وتأتيهم المصائب على حين غرة، هذه الحكمة قال عنها سليمان في كتابه الأمثال، إلا أن سلاطين الدينكا أمثال سلفاكير لا يتمنطقون بها إلا عند الدرس ليفهموا عندها أن الإتكال على الخيل وحده وإهمال العدالة لا يجدي نفعاً، والدينكا سوف يلاقون المصير نفسه عاجلاً أم آجلاً، وحينها تمت السيطرة للدينكا على منطقة القنال التي أهداها إياهم سلفاكير على طبق من ذهب دون وجه حق، وما كان ذلك إلا فتنة قديمة عكرت عشرة الجوار بين قبيلة الشلك والدينكا، امتدت لأكثر من مئة عام. وعقب إعلان القنال منطقة منزوعة ومحتلة بواسطة رئيس حكومة الجنوب لصالح الدينكا، جاءوا إليها بحشود عسكرية كبيرة مدججة بالسلاح في بزة رجال الشرطة، طوقوا المنطقة ووضعوا حولها المتاريس مظهرين عداءً سافراً ضد سكانها الأصليين من قبيلة الشلك، ثم نصب هذه القوة معسكرات داخل وخارج المدينة، وشرعوا في التنكيل والإضطهاد بأهلها طالبين منهم مغادرتها وفي مثل هذه الأجواء برز المقاتل السابق في صفوف الجيش الشعبي «أولنج»على مسرح الأحداث ينافح ويكافح للبقاء على أرض أجداده، حيث بدأ نضاله كرئيس شباب المنطقة وظل يفاوض الغزاة بضرورة الحفاظ على عهد الجوار، حتى وقعت الواقعة وحدث ما يكره الناس، بفعل القتال الضاري الذي جرى بالمنطقة وبمساندة الجيش الشعبي لمليشيات دينكا أتار، تم إجلاء أولنج ورفقاءه وكافة سكان المنطقة البالغ عددهم عشرة ألف أسرة تاركين خلفهم بيوتهم ومتاجرهم وأدواتهم في كسب العيش، حيث سلب السكان الجدد ممتلكاتهم التي جنوها بشقاء العمر، ووقتها لقي قائد ميليشيات الدينكا المدعو «أوطيطي»حتفه على يد الثائر «أولنج» ورفقائه حينها جن جنون الدينكا وطالبوا رأسه وأقلاها القبض عليه، وبهذا جنح «أولنج» إلى التمرد والإحتماء بالغابات حتى لا تمسك به يد الغدر والغشم، بذا أصبح «أولنج» خارج القانون وهارباً من عدالة الغوغاء «الحركة الشعبية، »ثم ألحقت به تهمة أخرى تتعلق بمقتل عمدة قرى «بينكانق» وهو من الشلك الذي أوكلت إليه الحركة الشعبية مهمته التنقيب عن سلاح الشلك وجمعه ثم إعطائه لمليشيات الدينكا سالفة الذكر، على غرار ما فعل جورج أطور حين كان مهندس عملية تهجير الشلك التي يسمونها «بالتحرير الداخلي» عن مناطقهم بالضفة الشرقية للنيل، ثم عاد وعدل وانقلب على رفقائه في الحركة الشعبية، فالعمدة المدعو «أوياط» في سعيه لجمع السلاح اتبع طريقة وحشية استخدم فيها القوارير البلاستيكية من مخلفات المشروبات الغازية بحرقها على ظهور الأطفال بعد تعريتهم من اللباس، لكي يتمكن من نزع معلومات ترشده إلى مخابئ الأسلحة التي يقوم بامتلاكها الآباء، أثارت هذه العملية حفيظة السكان المحليين، حيث نصب له مجهولون كميناً في طريقه إلى ملكال قتل على أثره، ودمغ «أولنج» بالتهمة ولاذ هرباً، بهذه الطريقة دفع رجل الأعمال الطموح إلى التمرد والثورة ضد حكومة الجنوب التي يغلب عليها الدينكا الذين في حوزتهم أدوات القهر وكافة مقدرات الدولة في جنوب السودان، لتحقيق مآرب قبلية ضيقة، وإذا استمر نهج الحكم في الدولة الوليدة على هذا المنوال وإقحام الاداء العام للصالح الخاص فسوف يظهر ألف «ولنج» وألف «ياوياو» ..... إلخ في كل مناطق الجنوب، وستقع مجازر مدفوعة بالكراهية لا تحمد عقباها تفضي لتصدع كيان الدولة الوليدة وإنفراط عقد نسقها السياسي. بعيد مؤتمر فشودة الذي نادى له حاكم ولاية أعالي النيل «سايمون كون فوج» الذي انقلب أخيراً على مقرراتها، ونكص اجماعها، خصص جلسات المؤتمر للإستماع لقضية أبناء قبيلة الشلك الثائرين ضد الحركة الشعبية وحكومة الجنوب أمثال العقيد «روبرت قوانق» والمقدم «لوانج»بالإضافة لرجل الأعمال الثائر الضابط السابق بالجيش الشعبي «أولنج»، قام هؤلاء القيادات الثلاثة بطرح قضيتهم على المؤتمرين في حضور وفد رفيع المستوى من جانب حكومة الجنوب وعسكريين من قيادة الجيش الشعبي أزالوا خلالها الغموض حول مطالبهم معبرين عن رغبتهم بترك حمل السلاح والعودة إلى الجيش في حال وجدت مطالبهم الإستجابة من جانب حكومة الجنوب، وأوضحوا صراحة أن تمردهم في الأساس ليس موجهاً ضد حكومة الجنوب الجهة الشرعية الوحيدة التي يتحاكم إليها الناس في حال خلافاتهم، وإن تغاضت في وقت سابق عن المظالم التي وقعت عليهم بمصادرة أراضيهم وحرق قراهم بفعل السكان المجاورين «الدينكا» أثناء قيامهم بواجبهم تجاه الحكومة، وعند زيارتهم إلى مناطقهم فوجئوا بالأحداث التي تسببت في تشريد عائلاتهم لذلك اعتصموا بها حتى تتدخل الحكومة لحل المشكلة، خلصت توصيات المؤتمر على ضرورة إيقاف توسع الدينكا في أراضيهم واسترداد المساحات المحتلة، بالإضافة إلى تنظيم قواتهم للإنضمام لصفوف الجيش الشعبي كغيرها من المجموعات العسكرية التي إتحدت ب «بلفام»، والتي تصفها الحركة الشعبية بالمليشيات ولا أدري ما الفرق بينها وقوات الحركة التي لم تنطبق عليها حتى الآن أدنى مطلوبات الجيوش النظامية المعروفة في كل دول العالم، بوصفها مؤسسة تختص بحماية الدولة والذود عن ترابها ومكتسباتها، وتعمل بعيداً عن الحزبية والطائفية والقبلية بعكس قوات الجيش الشعبي التي تتسم بالهمجية وعدم الإنضباط وضعف الوازع العسكري، حينها استجابت هذه القوات لنداء المؤتمر ثم شرعت في التنظيم للإنضمام لقوات الجيش الشعبي واتخذت مجموعة «أولنج» منطقة «دوو» قبالة الضفة الغربية لمدينة ملكال مكاناً لإعادة تدريب قواتها، وتم ذلك بتنسيق مع حكومة الولاية وقيادة الجيش الشعبي بالمنطقة، وظلوا بها مدة الثلاثة أشهر الماضية، وما لبث أن باغتهم الجيش الشعبي بهجوم غادر تصدوا له برباطة جأش ثابت الجنان وبسالة نادرة، حدث ذلك إثر قيام أحد جنود الجيش باغتصاب امرأة من الشلك كانت في طريقها إلى قرية مجاورة لمعسكر يتبع للجيش الشعبي، أقدمت خلالها بعض العناصر التابعة لقوات «أولنج» لإنقاذ المرأة والقبض على الفاعل، أبدى الجاني مقاومة عنيفة مما حدا بهم لضربه لكي يذعن لأمرهم، وأخيراً تركوه ليعود ومعه آخرون أغاروا على معسكر قوات ولونج، أدى ذلك إلى خسائر في الأرواح بين الطرفين، خلف أكثر من خمسين قتيلاً وامتدت المعارك ليومين متتالين ولم توارى الجثث الثرى حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لاغلاق الجيش الشعبي الطريق أمام المواطنين ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية للحيلولة دون الوصول للجرحى من جانب قوات «أولنج» واسعافهم إسوة بجرحى الجيش الشعبي. وبهذا ظهر جلياً أن الحركة الشعبية وجيشها يفتقران إلى الإنسانية وأخلاق إدارة الحروب، وأنها سوف تبقى مفوضة وغير جديرة بالإحترام ولو استخدمت الغليظ من حزم الحديد في قمع وإخضاع الثوار، وهي الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها المكتب السياسي للحركة الشعبية على لسان أمينها العام في التعامل مع المنشقين الشهر الماضي، وهاهي المعارك تنتقل إلى المدن بدءاً بملكال وضحاياها المواطنين، وفرحة «باقان وشمخرة قير شونق» تكتمل ولكل منهم غرض، لكن الذي لا يعلمانه أن العثرة سوف تصيب الدولة الجديدة في مقتل وبلوغ الصومال بات أقرب و«أولنج» و «ياوياو» و«قلواك» ليسوا بلقمة سائغة لا بد للحركة التعامل معهم برزانة عقل ومسئولية، لأن النصر العسكري وحده لا يجتث المشاكل من جذورها. ثبت أخيراً أن الحركة وجيشها تعانيان إشكالية التحول من «العزلة» والرعناء إلى قوة نظام تتصرف بلياقة في تسيير الشأن العام، حيث طالت تجاوزاتها أرواح المدنيين بدلاً من أن تكتفي بالمليارات التي أذابتها بالفساد، وها هي تفصل الدستور على مقاسها وترفض الاجماع الوطني في سياقتها، والمرء يستغرب الصمت المريب للجنوبيين إزاء المجازر التي ترتكبها قوات الجيش الشعبي ضد أبناء الشلك، أوكلتم يوم أوكل الثور الأبيض، الشلك أولاً والنوير والباريا ثانيةً والحبل على الجرار لئن قتل«أولنج» ورفاقه لا نملك إلا أن نقول طوبى لمن مات على النأناة والأمة «الشلك» حبلى بالثوار. رابطة خريجي «شلو»