علي باكثير: عندما أتصل بي الكاتب الأديب الدكتور محجوب برير محمد نور لدعوتي لحضور مؤتمر علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية، والذي عقد في القاهرة من1-4 يونيو2010م، سرعان ما تجاوبت مع هذه الدعوة الكريمة، ورحب بي وبشدة الأمين العام لإتحاد الكُتاب والأدباء الأديب الذكي الدكتور قدور، وأيضاً نائبه أديب السودان الكبير الفاتح حمدتو، وكنت وقتها ذاهباً للمشاركة في مؤتمر معهد الدراسات الأفريقية، لتقديم ورقة عنوانها كنيسة الإسكندرية في أثيوبيا في أوائل يونيو 2010م، ولكنني عندما ذهبت للمشاركة في مؤتمر أحمد باكثير، لم أكن أعرف عنه لا كثير ولا قليل، وجلست تلميذاً يسمع ويحاول أن يتابع الركب، وفجأة وجدت نفسي راكباً في قطار المؤتمر، مشاركاً، مهتماً بالجانب الإنساني عند باكثير، والذي يتجلي في الكثير من مؤلفاته، ولكنه يتألق أكثر في روايته الجميلة سلامة القس، ولقد قرأت هذه الرواية عدة مرات، ولا يتخيل أحد كيف أعتز بهذه الرواية، وأضعها الآن أمامي في خلوتي، وأراجع ما جاء فيها من شعر رصين، ومن مواقف عاطفية تؤكد أن الحب، والحب الطاهر، هو كأشعة الشمس يدخل إلى القلب بدون إستئذان، كما تدخل أشعة الشمس من خلال ممرات رفيهة ورفيعة، وحساسة ومنيعة، فالحب جميل، حتي أن المسيحية تعلن أن الله محبة، وهكذا النور محبة، والجمال محبة. لقد سعدت بهذه الرواية لأنني وجدت نفسي فيها فإنني قس، أوقفت نفسي ووقتي وجهدي ومحياي وقلبي، لخدمة إيماني المسيحي، وكرست نفسي لخدمة الآخر، وقد اختارني الله لهذه الخدمة لأنني لم أكن يوماً أحلم بهذا ولا أفكر فيه، ولكنني دخلت كلية اللاهوت بأمر البابا كيرلس السادس الذي غير أتجاهي في الحياة، ورسمت قساً بالحاح مطران الخرطوم القديس الأنبا دانيال، الذي صمم على انضمامي لموكب (القسوس) رغم أنني كنت أرغب أن أكون صحفياً، أو أستاذاً جامعياً، وكنت أول دفعتي في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكان من حقي أن أنضم إلى هيئة التدريس معداً، وبعد هذا تتابع الخطوط حتي أصير عميداً، ويصبح قولي إنني عميد ليس فلتة لسان إنما واقع معاش.وعن القسوس تكلم القرآن الكريم بأحترام عظيم، عندما قال تعالي: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} المائدة82 وتستمر سورة المائدة لتؤكد أن عيون المسيحيين تفيض من الدمع، عندما تسمع كلام الله، ويؤكد القرآن الكريم أن هؤلاء المسيحيين يكافئهم الله بالجنة ثواباً وخلوداً، وجزاءاً للمحسنين.وهذه الآية القرآنية الكريمة تؤكد فهم القرآن الكريم لمسيحية الشرق، وعلي الأخص الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فهي الكنيسة التي فيها طغمتان أو مجموعتان (الرهبان، والقسوس)، الرهبان لا يتزوجون، والقسوس يتزوجون، أما الكنيسة الغربية فيجمع الواحد فيهم بين القسوسية والرهبنة، وفي مصحف الصحابة لشرح كلمات القرآن يقول إن القسيسين هم رؤساء النصارى، والرهبان هم المنقطعون للعبادة، كما أن نفس هذه الآية تفرق بين الذين أشركوا، والَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى، فالنصراني ليس أبداً مشركاً، إنما هو موحد بالله، وإلهنا وإلهكم واحد. أما القسوس في دائرة المعارف الكتابة، فإن كلمة قس كلمة سريانية معناها شيخ، وفي الأصل اليوناني برسبفوتروس Presbuteros ومعناها شيخ، وقد ترجمت هذه الكلمة إلى شيوخ أو مشايخ (62 مرة) في العهد القديم، وإلى قسوس (مرتين) في سفر أعمال الرسل، وَانْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَاسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ الَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ.(سفر أعمال23:14)، وأيضاً: وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَاسْتَدْعَى قُسُوسَ الْكَنِيسَةِ. وعقد معهم إجتماعاً لدرسة إحتياجات خدمة القسوس المقدسة. القس عبد الرحمن: وتدور رائعة باكثير سلامة القس حول قس أحب فتاة هي سلامة والقصة قصة واقعية جاءت في الأدب العربي القديم، جاءت في عيون الأخبار، وفي كتاب الأغاني تحت عنوان ذكر سلامة القس وخبرها، وذكرها الراغب الأصفهاني في كتابه: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، وكثيرون غيرهم. والقس عبد الرحمن هو مسلم متدين جداً، يقوم كل يوم بقرءاة جزء محدد من القرآن الكريم، ويصلي صلوات السواعي في وقتها، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، يستيقظ في الهزيع الأخير من الليل على صوت الآذان الأول لصلاة الصبح فيذهب سريعاً ليصلي في جامع مكةالمكرمة، وكان هَمَ أمهُ منذ أن توفي زوجها أن تنشئ ابنها الوحيد عالماً فقيهاً كسعيد بن المسيب، أو كعطاء بن رباح، وشاء الله أن يسمع دعواتها، ويعطيها أكثر من مطلبها، فلقد كان الشاب مضرب المثل بمكة في فقهه وعبادته، حتي لقبه أهل مكة القس وغلب عليه هذا اللقب حتي كاد لا يعرف إلا به، وكان عبد الرحمن القس عنواناً للشاب العفيف الناشئ في عبادة الله، الملازم للمسجد، الفقيه في الدين، وكان الشيوخ والكهول يروون عنه الحديث، واشتهر أمره فلم يكن من بيت بمكةالمكرمة لم يسمع به، وكانت المرأة من نساء مكة تدلل ابنها على ركبتيها وهو رضيع، بأن ينشأ نشأة القس، وكان الرجل يتمني من الله لو رزقه ولداً مثله، لقد وقع القس في غرام سلامة، ولكن الأهم هنا هو مدى إحترام المسلم في مكةالمكرمة بإحترام القس المسيح حتي يعطونه لقباً لكل عابد زاهد ساجد، سائح في حب الله.