الخطوة المصرية نحو الانضمام لميثاق روما المنشيء لمحكمة الجنايات الدولية والتي كشف النقاب عنها أمس الأول وزير الخارجية المصري نبيل العربي، تعد غريبة في توقيتها بالنظر إلى الحراك الإيجابي الملحوظ الذي شهدته العلاقات السودانية المصرية منذ نجاح الثورة المصرية .. خاصة من الجانب السوداني الذي أبدى كثيراً من حسن النوايا التي تعتبر من باب المبادرة بالتحية بدءاً من الاعتراف بالمجلس الانتقالي وتلبية الرئيس البشير لدعوة المجلس له لزيارة مصر كأول رئيس دولة في العالم يزور مصر بعد الثور،ة وما طرحه وقدمه في مباحثاته مع الجانب المصري من (عروض) تصب في مصلحة مصر، وإعلانه عن وقوف السودان مع مصر الثورة، ودعوته إلى العمل على تمتين العلاقات بين البلدين وصولاً بها نحو الوحدة، وتأكيده على أن ما يمس مصر يمس السودان. كذلك من مظاهر حسن النوايا من السودان تجاه مصر سكوته عن إثارة قضية حلايب، وذلك(حياءً وتأدباً) وحفاظاً على أجواء المودة و الإخاء الهادئة بين البلدين بالرغم من أن صناع السياسة الخارجية فيه يدركون تمام الإدراك أن لا مكان لهذه الأخلاق الرفيعة في ميدان ومعترك السياسة الدولية، و أنهم خبِروا عن طريق التجربة والممارسة أن القوة هي العنصر الأكثر فاعلية، وأن الشراسة والمخاشنة أجدى وأكثر نفعاً من الموادعة والمهادنة حتى مع الجار، ولكن مصر في نظر السودانيين أكثر من مجرد جار، لأن من الجيران من لا تُؤمن بوائقه. لذلك فإن الخطوة المصرية غريبة خاصة في توقيتها، وأخشى على الثورة المصرية من أن تكون قد دخلت بالفعل تحت وصاية جهات لا تريد الخير لمصر والسودان والأمة الإسلامية والعربية، وقد يقول قائل إن لمصر باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة، الحق في الانضمام إلى ما تراه من مواثيق دولية وإقليمية وفق مصالحها الخاصة ولا اعتراض على ذلك وهو حق مكفول لها.. ولكن هذا الحق ليس على إطلاقه بالنسبة لواقع العلاقات المصرية السودانية، بمعنى أنه لابد في مثل هذه الحالات من مراعاة الظرف الإقليمي السائد. فقضية السودان مع المحكمة الجنائية معلومة، حيث للأخيرة مزاعم وادعاءات في حق الرئيس البشير وأصدرت المحكمة مذكرة اعتقال في حقه، وحسب زعمها أنه مطلوب للمثول لديها بتهمة الإبادة الجماعية بناءً على حيثيات مزورة ومفبركة وتأسيساً على إفادات ومعلومات من سياسيين معارضين ومن حركات متمردة، وكان مسلك المحكمة ومدعيها العام سبباً في الإضرار بمصالح السودان ومركزه ومكانته الدولية وإشانة سمعته وتشويه صورته واستغلته كثير من القوى الدولية وما تزال تستخدمه لممارسة الضغط على السودان وتعطيل مصالحه في عدد من القضايا خاصة فيما يتعلق باتفاق السلام الشامل وقضية العقوبات الأمريكية وقائمة الإرهاب، فهل تريد مصر الثورة أن تنضم إلى هذا النادي المناويء للسودان لاتخاذ (الجنائية) ورقة ضغط تجاه السودان؟ أهكذا يكون رد التحية يا (ثوار) مصر على التحية السودانية؟.. هل قمتم ب(حلحلة) كل قضايا مصر والإرث الثقيل من المشاكل المحلية والإقليمية والدولية التي ورثتموها من النظام السابق، ولم يتبقَ منها شيء سوى موضوع الجنائية؟.. هل أصبحت قضية الانضمام إلى الجنائية الدولية مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر وشعب مصر؟ هل هي حقاً من القضايا الحيوية لمصر تستحق منكم كل هذا الاهتمام وما تزال الثورة تترنح وما يزال ميدان التحرير دافئاً بأنفاس شباب الثورة وما يزال يمثل برلماناً شعبياً تعقد جلساته بطريقة عفوية في الهواء الطلق حين يتنادى إليه شباب الثورة يقدمون من خلاله طلبات (إحاطة) واجبة التنفيذ فتستجيبون لها؟ لماذا الجنائية و(بسم الله ما شاء الله) كل أركان النظام السابق ورموزه من لدن مبارك وأولاده إلى أنس الفقي كلهم في مصر (ما لحؤوش يهربوا بره).. في غياهب السجون ورهن الحبس على ذمة التحقيق والأدلة والبراهين ضدهم تسد قرص الشمس وعلى قفا من يشيل؟.. لماذا يا ثوار مصر وقد كان وفد منكم قبل أيام قليلة يلتحم مع نظراء لهم عندنا في مشهد بث فينا الطمأنينة بأن مصر الثورة ستكون هي السند و(العزوة) للسودان. مدير الإدارة القضائية بالخارجية المصرية السفير محمود عزت، سارع إلى القول- وليته لم يقلها- (إن الرئيس البشير سيكون في مأمن من أية ملاحقة داخل مصر حال تصديق القاهرة على ميثاق روما، وأن مصر لن تقدم على اتخاذ أي إجراء يتعارض مع سياستها وعلاقاتها التاريخية مع الشعب السوداني، وأن الرئيس البشير يستطيع أن يزور مصر في أي وقت.. وهذا الجزء الأخير من كلام الرجل يذكرني بعبارة (تبات عندنا والّا تروح الفندق؟). البعض ربط بين الخطوة المصرية وبين رفض السودان ترشيح د. مصطفى الفقي لمنصب أمين عام الجامعة العربية، وهو ربط ينم عن سطحية وسذاجة ليس لأن مبررات السودان وأسانيده في الرفض منطقية وموضوعية فحسب، ولكن لأن الفقي مختلف على أهليته الأخلاقية محلياً وعربياً لتبوء هذا المنصب ، فمحلياً عمل المذكور في خدمة النظام السابق حتي آخر أيامه، ثم لما أدركه الغرق التحق بالثورة مكرهاً، أما عربياً فقد كانت له مواقف معادية تجاه عدد من الدول العربية، وهي بدورها رفضت ترشيحه، لذلك فإن حظه في الفوز بالمنصب كدقيق فوق شوك نثروه وقالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه، وهل تريد مصر الثورة أن تكون وصية على السودان، فإما أن يوافق على مرشحها وإلا فسيف الجنائية أصدق أنباءً؟إن كان لنا حق النصح للقادة الجدد في مصر.. فنقول لهم إن الانضمام للجنائية هو (فخ) منصوب لكم للوقوع فيه من قوى معادية لمصر تريد تخريب علاقاتها مع السودان في الأجل القريب من جانب، وربط مصر بأجندة وتوجهات خارجية لا مصلحة لمصر فيها في الأجل الطويل من جانب آخر، وبالتالي فمن الأجدى لها أن تحجم عن هذه الخطوة إلى ما ينفعها ويحافظ على مصالحها وسيادتها.