يقسِّم الله تعالى الأرزاق بين العباد.. وفق مشيئة عدله.. فالصحة.. والذكاء.. والجمال.. والمال.. والبنون كلها أرزاق توزع بمكاييل إلهية لبني البشر.. (ولا يظلم ربك أحداً). لكن يظن أغلب الناس أن الرزق هو المال فقط.. وأن الحرمان منه يعني الحرمان من كل شيء، فلا تعد لبقية النعم.. مما لا تحصى ولا تعد، أي قيمة أو أثر في حياة الناس.. وكأن الحياة لا تساوي شيئاً بلا أموال طائلة!!. وهل كل من ملك الأموال والعمارات الشاهقة.. والعربات الفارهة.. راضٍ وسعيد؟.. ويؤدي حق أمواله؟.. ويعرف حقوق الجار؟.. خصوصاً الفقراء والمساكين!. أعيش في أحد أحياء العاصمة المتوسطة الحال.. فيها العمارات الشاهقة التي لا ترى من زجاجها الملون إلا ستائرها المخملية.. وحدائقها الغناء.. وفيها متوسطو الدخل، الذين يعيشون في بيوت الإيجار.. وفيها الفقراء الذين يسكنون خفراء لبعض المباني.. وفي وسط هذا الزخم الطبقي استطيع أن أقول.. إن السودان بخير.. وفيه كثير من التراحم.. ولكم شاهدت (أصحاب الستائر المخملية) يزورون الخفرة ويجاملونهم في مناسباتهم والأعياد.. ويكثرون الصدقات في السر والعلن.. وإن كان البعض لا يعرفون حتى الساكنين بالإيجار ناهيك عن الخفرة!.. وقد لا نستغرب إذا أحدثت النعمة وسعة الرزق في الناس تغييراً سلوكياً يتناسب والمستوى المعيشي والطبقي في الملبس.. والمأكل وحتى المعاملة.. لكنني أستغرب فعلاً عندما أجد في البيوت البسيطة والرواكيب.. والعمارات المحروسة.. أناساً يجيدون الإتكيت.. نعم الإتكيت الذي يدرسه الفرنسيون في المدارس حتى تصبح المرأة (راقية وكلاس) تجيد التحدث.. الصمت عند اللزوم.. الإبتسامة.. المشي برشاقة.. الرقص.. الأكل بالشوكة.. والسكين.. إعداد الحفلات.. الحديث عن الشعر والحب والموسيقى..!. لكن هؤلاء يأكلون بأصابعهم وجبة واحدة .. لا يعرفون موسيقى ولا شعراً.. كنت رغم ذلك أظنهم أرفع إتكيتاً من أرقى الطبقات المخملية الفرنسية.. لأنهم يعرفون (سر الرقي).. يرضون بالقليل.. ويطوعونه.. يجعلونه ممكناً.. يعلمون أبناءهم في المدارس بقمصان مرقعة لكن نظيفة.. يحترم النساء الرجال ويقدسنهم .. يربون الأطفال.. ويعرفون حقوق الجار.. وأرقى ما فيهم كرمهم الفياض... إن كرم الأغنياء شيء عادي ونادر.. لكن كرم الفقراء قمة في السمو والفهم والرضا والقناعة.. كرم بالتمر.. الشاي.. القهوة.. وكل الموجود من الطعام.. إنه إتكيت من نوع خاص.. سوداني لا يحتاج لشوكة ولا سكين.. اسمه الأصالة والنبل.. الصبر والكرم!. زاوية أخيرة: قال الإمام الشافعي رضى الله عنه: توكلت في رزقي على الله خالقي وأيقنت أن الله لا شك رازقي وما يكن من رزق فليس يفوتني ولو كان في قاع البحار العوامق سيأتي به الله العظيم بفضله ولو لم يكن من اللسان بناطق ففي أي شيء تذهب النفس حسرة وقد قسم الرحمن رزق الخلائق